يوغا غزة

بقلم: أسامه الفرا

مات اسحق رابين دون أن يحقق بحر غزة حلمه في أن يصحو من نومه ليجده قد ابتلع القطاع بمن فيه وما عليه، بقي البحر على حاله يميل إلى السكون صباحاً قبل أن تتلاطم أمواجه لتفصح عن الوجه الآخر له، يعتلي الصيادون سطحه في مراكبهم المتواضعة بحثاً عن رزق لهم في المساحة الضيقة المسموح لهم بالحركة فيها، يقولون انها ثلاثة أميال تمددت على الورق لستة أميال طمعاً في أن تصل لضعف ذلك قبل نهاية العام، الزوارق الحربية الإسرائيلية ترقب حركة المراكب الصغيرة وتخضعها لقانون غير ما اتفق عليه مراراً وتكراراً بتوسيع رقعة الصيد، تطلق نيران اسلحتها الثقيلة تجاههم لتجبرهم على التراجع إلى الميل الأول، بعد ليل في البحر على مقربة من اليابسة يخرج الصيادون ومعهم ما تيسر من الرزق، عادة بالكاد يوفر ثمن المحروقات التي التهمتها محركات قواربهم، يعودون في اليوم التالي على أمل أن يكون مغايراً لأيام طويلة حملت نفس النتائج.

بعيداً عن رقعة الصيد الزئبقية المسموح بها والممنوع تخطيها، ولعبة القط والفأر بين الزوارق الحربية التي تمخر البحر ومراكب الصيادين الصغيرة التي تتقاذفها الأمواج، يصطف على طول الشاطئ من جنوبه إلى شماله أعداد متزايدة من صيادي "الصنارة"، منهم من احترف ذلك على مدار سنوات عدة ومنهم من دفعته الهواية لذلك، لكن الأهم أن الغالبية جاءت من خارج دائرتي الاحتراف والهواية، قد يكون الدافع لهم الهروب من قسوة متطلبات الحياة اليومية وابتعاداً عن لغة المناكفات التي تثقل كاهل العقل والمنطق.

لا تعنيهم كثيراً الغلة التي سيعودون بها ادراجهم مع الغروب بقدر ما يبحثون عن ممارسة "اليوغا" على طريقتهم، إن كان الهندوس ابتدعوا "اليوغا" للجمع بين الجانب الروحي، المتمثل في التأمل والتفكر والابتعاد عن ماديات الحياة، وبين الجانب العملي المبني على جملة من التمارين الرياضية البدنية، فالمؤكد أن صيادي "الصنارة" حققوا الشيء ذاته لكن على طريقتهم الخاصة، بغض النظر عن الدوافع وإن كانت ممارستها طوعاً أم كرهاً، فالمؤكد أن الغالبية تجد فيها متنفساً لحالة الإختناق الفكري الذي نعاني منه.

مؤكد أن الظاهرة لم تأت من باب الترف الحياتي، ولا تلبية لحاجة ملحة في ترويض النفس وتعزيز قدرتها على الصبر والجلد، فالغالبية الساحقة من مجتمعنا تتمتع بقدر وافر من قوة التحمل التي تحسدنا عليها المجتمعات الأخرى، ألم نصبر على ثلاثة حروب مدمرة في خمس سنوات؟، ففي الوقت الذي واجهنا الموت خلالها بثبات وتمترسنا في أماكننا، كانت المجتمعات المحيطة بنا تفر من ديارها تحت وقع إقتتال هو أقل قسوة مما تعرضنا له، لا نجافي الحقيقة إذا ماقلنا ان البطالة تلعب دوراً محورياً في تشكيل هذه الظاهرة، وأن الهروب من حالة "التناطح" الداخلي هو الآخر يعزز من تواجدها، المؤكد أن ملامح الظاهرة لا تنبئ عن حالة صحية سليمة حتى وإن حملت الصورة الكثير من مكونات "اليوغا".