لم يكن مفاجئا ان يقف الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبومازن) ليخاطب المجتمع الدولي من أرفع منابره واضعًا إيّاه أمام مسؤولياته الأخلاقية والإنسانية مطالبًا إيّاه بالحماية الدولية لشعبه وبحقه في الحرية وحق تقرير المصير وبالمساعدة في إنهاء مأساته وإقامة دولته الفلسطينية المستقلة بعاصمتها القدس على الأراضي التي احتلتها إسرائيل في حرب 67 وضمان حق العودة للاجئين من شعبنا الفلسطيني الى ديارهم وفق القرار الاممي 194 بتحمل مسؤوليته الأخلاقية التي أصبحت غير قابلة للتنصل بعد عدوان غزة الأخير الذي استمر 50 يومًا من الدمار الشامل موديًا بحياة أكثر من ألفي شخص ربعهم من الأطفال الأبرياء .
وعندما يطالب الرئيس ابو مازن بحق الشعب الفلسطيني في المقاومة وحقه في الحماية الدولية وحقه في إنهاء الاحتلال الظالم لأراضيه، فإنه أيضًا إنما يطالب بما سبق وإن صدر عن الأمم المتحدة من قرارات شرعية دولية ظلت حكومات الاحتلال المتعاقبة ترفضها وتتنكر لها عبر عقود عدة ضاربة بها عرض الحائط.
ولذا فإن خطاب الرئيس الفلسطيني في الأمم المتحدة وضع النقاط على الحروف من خلال لاءاته التي فرضتها المرحلة واستمرار العدوان والاستيطان والاحتلال الإسرائيلي وبعد وصول ما يسمى المفاوضات برعاية امريكية الى طريق مسدود على مدار اكثر من عشرين عاما استنادًا إلى الحقيقة التي تنص على استحالة العودة إلى دوامة مفاوضات تعجز عن التعامل مع جوهر القضية ولا يكون هدفها إنهاء الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية.
وامام ما تقدم فان المواجهه الأميركية – الفلسطينية حتمية، وقد تأخرت كثيرا، وحاولت القيادات الفلسطينية المقاومة والمفاوضة على حد سواء تجنبها دائمأ، فهي ليست خيارا فلسطينيا، لكن الإدارات الأميركية المتعاقبة تبدو مصرة على فرضها على الشعب الفلسطيني.
وتقتضي هذه المواجهة كذلك الاستعجال في استكمال آليات تنفيذ اتفاق المصالحة، والاستجابة السريعة للإجماع الشعبي والفصائلي على الإسراع في طلب الانضمام إلى المنظمات والمعاهدات الدولية، ورسم استراتيجية وطنية تستند لكل اشكال المقاومة كما ونوعا وتوسيع نطاقها لتشمل كل ارجاء فلسطين فهذه الاستحقاقات، في معزل عن أي مواجهة مع الولايات المتحدة، تظل استحقاقات وطنية يجب تعزيزها وتعميقها وتطويرها لأنها الشرط الوطني المسبق الذي لا غنى عنه إذا ما أرادة القيادة الفلسطينية تحويل ما تحقق من إنجازات “ورقية” دبلوماسية إلى واقع على الأرض.
وامام صمود الموقف الفلسطيني وفشل العدو في تحقيق أهداف العدوان على غزة ، واستمراره في سياسة الاغتيالات وتهديد المسجد الاقصى والاستمرار في تهويد القدس والاستيطان ، تتطلب استكمال عملنا السياسي و الدبلوماسي ايضا يقطع الطريق على حكومة الاحتلال لان خروجها من هذا المأزق لا يتم الا بالخضوع للارادة الدولية ولإرادة الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعه ، مما يتطلب شحذ الهمم لمواجهة التحديات و خلق مجموعة الانتصارات التي في النهاية ستوصلنا الى اهدافنا المشروعة و النبيلة المتمثلة في اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس العربية، و تنفيذ كافة قرارات الشرعية الدولية، و على رأسها القرار ١٩٤.
ان حقيقة انهيار قدرة الردع الإسرائيلية أمام صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته في حرب غزة الأخيرة وهزيمته ولجم تداعياتها الكارثية على منظومة الهيمنة الاستعمارية بحيث يطرح التدخل الأميركي اولوية جديدة تجذب الاهتمام السياسي والإعلامي في المنطقة بعيدا عن فلسطين عنوانها الحرب على الإرهاب وتتضمن وضع المنطقة تحت ضغط التدخل الأميركي المباشر بهذه الذريعة وبصورة تحمي منظومة الهيمنة الاستعمارية وتقيم توازنات تتيح للولايات المتحدة الاحتفاظ بموقع وبدور في رسم معادلات المنطقة والشراكة بالتالي في رسم خرائطها الاستراتيجية والنفطية المستقبلية بعدما ظن كثيرون انها رضخت لفكرة الخروج من الشرق الأوسط وهذا ما يناقض الطبيعة الاستعمارية لدول الغرب ومن يدرس التاريخ المعاصر يكتشف ان الولايات المتحدة لم تندحر يوما عن بقعة في العالم إلا مكرهة مرغمة وبالقوة.
وفي ظل هذه الظروف تسعى إدارة اوباما إلى إظهار الولايات المتحدة في المنطقة بصورة المخلص بعد خروجها الذليل من العراق وإلى طمس مسؤوليتها عن تغذية الإرهاب التكفيري واستحضاره وحشده في الحرب على سورية وفي سعيها لتمزيق الوحدة الوطنية في كل من سورية والعراق ضمن مخطط التفتيت الأميركي الذي سمي بمخطط الشرق الأوسط الجديد والذي يتركز في بلاد الشام لحماية كيان العدو ولمحاصرة وإضعاف قوى المقاومة الذي شل قدراتها الاستراتيجية .
لهذا فان ردة الفعل الاسرائيلية الامريكية على خطاب الرئيس محمود عباس كانت متوقعة ويبدو نتنياهو مهزوماً في السياسة وخاصة بعد تهديداته بمعاقبة السلطة الفلسطينية وبتدمير حكومة الوفاق الوطني الفلسطيني ومعاقبة أطرافها، اضافة الى ان حكومة الاحتلال اصبحت عاجزة عن كسب الاحتفاظ بهيبة الردع، وهي تفتش عن ترضيات جزئية تعوّض خسائرها بالتعويل على الضغوط السياسية التي تمارسها الولايات المتحدة بواسطة بعض الدول العربية لتطويع الموقف الفلسطيني، وتَساندها في تعطيل اي جهد لتحقيق الأهداف التي ضحى الشعب الفلسطيني لأجل تحقيقها بدماء غالية، وتحمل ذلك الدمار العظيم كله الذي صنع الناس من حوله قلاع صمودهم الأسطوري.
ان التوجه السياسي الفلسطيني هو تأكيدا على وحدة وصمود وامانة التضحيات التي قدمها الشعب الفلسطيني وما زال ، وان صمود المفاوض الفلسطيني في إدارة التفاوض غير المباشر عبر التمسك بمطالب الشعب الفلسطيني بانهاء الحصار واعمار قطاع غزة ، وبالتالي فإن التحدي الفعلي هو رفض الرضوخ لشروط "إسرائيل"المتعلقة بالمقاومة .
خسرت الولايات المتحدة وإسرائيل الرهان على صرف محور المقاومة عن مركزية فلسطين كقضية وكالتزام كما بينت التجربة بكل وضوح وبذلك انهار الرهان الاستراتيجي على تغيير البيئة الحاضنة لمعادلة الانتصار الذي حققته في لبنان وفلسطين وتدخل إسرائيل اليوم في جدل الوجود فيتبارى متطرفوها الصهاينة في عرض مشاريع تحت اسم الحل الشامل ويتعاظم كابوس الصهاينة من أي حرب قادمة محتملة مع المقاومة التي يعلمون ان دورها الحاسم في حركة المقاومة الجديدة في المنطقة بمواجهة الهجمة الارهابية الصهيونية الاستعمارية يتعزز بقدرتها على دعم النظائر في اكثر من بلد عربي وهو يبرع في تحويل التهديد إلى فرصة .
ولهذا كانت كلمة الرئيس محمود عباس باسم شعب غاضب، يشعر بالظلم عندما يطالب بحقه في الحرية والاستقلال والعودة , ويتمسك بقرارات الشرعية الدولية، في حين يتم غض النظر عن إسرائيل التي تتبنى حكومتها سياسة الحرب, والاحتلال والاستيطان, والتطهير العرقي ضد الشعب الفلسطيني.
أن موقف الرئيس ابو مازن عبر فيه عن منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني الذي لا يقبل القسمة على اثنين, وان الحل العادل للمشكلة الفلسطينية موجود في وثائق وقرارات الأمم المتحدة، والمنظمات الإقليمية, والذي يتمثل في إقامة دولة فلسطين المستقلة وعاصمتها القدس فوق كامل الأراضي التي احتلتها إسرائيل في العام 1967، والتوصل إلى حل عادل ومتفق عليه لقضيةِ اللاجئين الفلسطينيين وفق القرار 194, ومبادرة السلام العربية, ورفض مشروع الدولة ذات الحدود المؤقتة.
نعم الرئيس خاطب العالم باسم الشعب الفلسطيني الذي لا يسمح بأن يكون ضحية نكبة جديدة, وسيواصل صموده فوق أرضه لأنه لا وطن له إلا فلسطين، ولا أرض له إلا فلسطين، فالشعب سيواصل المقاومة الشعبية بكافة اشكالها التي نصت عليها القوانين والاعراف الدولية بمواجهة الاحتلال والاستيطان, ومن أجل الحرية والاستقلال0
وفي ظل هذه الاوضاع نرى ضرورة الرافض للاستمرار في النهج التفاوضي، بعد ان بات من المؤكد لدى الجميع أن استمرار المفاوضات بذات المرجعية الأمريكية وبدون سقوف زمنية ولا نهايات محتملة ليس إلا إضاعة للوقت والجهد وتوفيرا للغطاء لإسرائيل كي تستمر في فرض الأمر الواقع على الأرض، من خلال توسيع الاستيطان وتغيير المعالم على الأرض"، على حد تعبيره.
واليوم نحن في وضع أسوأ من تلك الفترة حيث نرى أن كل ما يجري في المنطقة من هجمة امبريالية صهيونية ارهابية هدفها شق الصف العربي وإضعافه وتقسيم المنطقة، وأن الرجعية العربية لا تزال سبب رئيسي في تعقيد القضية الفلسطينية.
ختاما لا بد من القول من هنا يجب استثمار خطاب الرئيس من خلال تغليب المصلحة الوطنية على المصالح الحزبية الضيقة, والمسؤولية والمصلحة الوطنية تقتضي الآن بإنهاء الانقسام, ووضع خطة عمل لترجمة هذا الخطاب بشكل واضح تعيد رسم أسس العملية السياسية بين الشعب والاحتلال من خلال استثمار هذا الجهد الدولي, وتعزيز الوحدة الوطنية وإعادة النظر في بناء المؤسسات الفلسطينية كافة باعتبارها مؤسسات دولة وليس مؤسسات سلطة, مع مواصلة العمل انطلاقا من القضايا التي طرحها الرئيس على كافة الأصعدة، بما في ذلك المقاومة الشعبية وتأمين الدعم الكافي للتوجهات الفلسطينية والاسراع في تفعيل وتطوير منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها.