الشاعر (هارون رشيد) واحد من أبرز الشعراء المعاصرين، الذي صور بقلمه أروع اللوحات الشعرية والأدبية التي تنبض بالحماس الوطني، وجسد أبلغ المعاني الوطنية الصادقة، وامتزج شعره بحب الوطن، واستطاع بأعماله الأدبية فضح القبح الإسرائيلي في حق قضيتنا، وقد كانت قصيدته (عائدون) شعاراً على كل لسان فلسطيني وعربي مخلص، حمل هموم فلسطين في كل مكان يهبط فيه، مغرداً بصوته ونبرته العالية؛ وهو يخاطب وطنه الذبيح (غزة) متذكراً لياليها وأيامها الجميلة، ومناظرها الخلابة، وطبيعتها الفتانة..
لا يفوتني سيدي الشاعر أن أقول لك في هذا المقام أن سيد الكلمات هو سيد المكان، وإن ما أصاب أدبنا وأدباءنا وشعراءنا هو بعض ما أصاب وطننا، إن مأساة الشعر والأدب الفلسطيني المشرد هو جزء من مأساة فلسطين، ولو كان هارون هاشم رشيد مواطناً مصرياً أو لبنانياً أو عراقياً لأقيمت له التماثيل، وأطلق اسمه على الساحات والميادين، وخصصت له الكراسي الأدبية والعلمية، وتبارى الناس في دراسة سيرته، وتحليل شعره، ونشر مؤلفاته، وإطلاق اسمه على الأندية الأدبية والمحافل العلمية. هذه هي حالنا... فتحية لك أيها الرجل الرجل.
ولد الشاعر الكبير هارون رشيد – وهو شقيق الشاعرين علي وأكرم هاشم رشيد - في حي الزيتون بمدينة غزة في العاشر من تموز (يوليو) عام 1927، وتلقى علومه الأولية في مدرستي الفلاح الوطنية والإمام الشافعي، أما دراسته الثانوية فقد تلقاها في كلية غزة عام 1947.
بعد حصوله على شهادة الثانوية العامة زاول مهنة التدريس لمدة سبع سنوات مدرساً للغة العربية في معسكرات اللاجئين في (البريج، المغازي) بقطاع غزة، وشارك مشاركة فعالة في تحرير الصحف العربية التي صدرت في مدينة غزة بعد النكبة عام 1948م مثل: غزة واللواء والرقيب والوطن العربي.
في عام 1954 ترك التدريس، وعين رئيساً لمكتب الإذاعة والنشر في إدارة الحاكم العام لقطاع غزة، ثم رئيساً للإعلام ومستشاراً للحاكم العام، كما عين مسؤولاً لمكتب إذاعة (صوت العرب) بقطاع غزة. وفي عام 1956 إثر احتلال قطاع غزة إبان العدوان الثلاثي اضطر إلى اللجوء إلى القاهرة، فالتحق مواصلاً عمله في إذاعة (صوت العرب)، وبعد جلاء القوات الإسرائيلية عام 1957 عاد إلى القطاع ليواصل عمله مرة ثانية، وعندما قامت منظمة التحرير الفلسطينية عام 1965 اختير للعمل بها مسؤولاً عن إعلام المنظمة، وجيش التحرير الفلسطيني في قطاع غزة.
في عام 1967 غادر غزة إلى القاهرة بعد الاحتلال الإسرائيلي، وانتدب للعمل في منظمة التحرير الفلسطينية، وأصبح مسؤولاً عن إعلامها، إضافة لذلك عمل مندوباً لفلسطين لدى جامعة الدول العربية، ومندوباً دائماً لفلسطين لدي اللجنة الدائمة للإعلام العربي، واللجنة الدائمة للشئون المالية والإدارية بجامعة الدول العربية. وفي عام 1979 انتقل مع انتقال جامعة الدول العربية إلى تونس، كما عين مندوباً دائماً لفلسطين لدى المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وفي عام 1980 اختير مديراً لتحرير (مجلة شئون عربية) أول مجلة تصدرها جامعة الدول العربية. وفي عام 1990 عاد إلى القاهرة مع عودة الجامعة العربية، ومازال على رأس عمله.
كان (هارون) كأخيه (علي) و(أكرم) أديباً وشاعراً موهوباً، أخذ يقرض الشعر، ويبدع القصيد منذ عام 1950، وما بعدها وينشر قصائده في الصحف والمجلات في غزة والعالم العربي؛ وقد استقبل القراء شعره بالحفاوة والترحاب؛ واختار المطربون العرب الكثير من أناشيده وقصائده ولحنوها وغنوها في إذاعات العالم العربي، وفي مقدمتهم: (فيروز، فايدة كامل، محمد فوزي، كارم محمود..).
وقد نال شاعرنا شهرة تجاوزت حدود فلسطين إلى أفاق العالم العربي، وفي عام 1954 صدر ديوانه الأول مع الغرباء، وكانت قصائد الديوان مستوحاة من مأساة فلسطين، وهو ناظم النشيد القومي الفلسطيني (عائدون)، وقد استهل به ديوانه (عودة الغرباء) الذي طبع عام 1956 بذلك النشيد.
عائدون عائدون عائدون
ج
إننا لعائدون فالحدودلن تكون
ج
القلاع والحصون فاحرقوا
ج
يا نازحون
ج
إننا
ج لعائدون
ج
وأهدى شاعرنا ديوانه الأول للاجئين بقوله:
إلَيْهم قصيدي و ما أَنْظم
وشِعْري وما في دمِي يُضرم
إلَيْهم إلى إخْوتي اللاجئين
إلى إخوتِي يَوم يَدْعُو الدّم
إلَيْهم وإنْ سكنوا في الكُهوف
وفوق رَوابِي الأسَي خَيَّموا
وإن مزَّق الصَّخْر أقْدامَهُم
ج وفي عاصف الريح إن هَوَّموا
إليهم سأشْدو بِشِعرِ الْحياة
ومنهُم بروحي سَأستلهم
ج
وكان لمدينته غزة الباسلة سهماً وافراً من شعره؛ تلك الأرض التي أحب بحرها، وأهلها الأخيار.. فقال في قصيدته "حبيبتي غزة":
ويسألُ عنكِ المساءُ الحزينُ
وتَسأَلُ عنكِ رُفوفُ السُّنونُو
ويَسألُ عَنكِ الصَّدى والمدّى
ويسألُ عَنْ مُقلتيكِ الحَنِينُ
وتَسألُ عَنكِ تلالُ الغُيومِ
ويَسألُ عنكِ الجِراحُ الدَّفينُ
أَمَا زِلتِ يا "غزة" الكبرياءِ
ج يَحوطُكِ هَذا الوفاءُ الحَنُونُ
أمازالَ ينبضُ فيكِ البَرِيقُ
ومازال يَدْفِقُ منكِ الرَّنينُ
ج
أما زِلتِ"غزة" أغلى البلادِ
ج يُضَوّءُ في مِعطَفيكِ اليقينُ
ج
أما زِلتِ أنتِ مَرَاحَ الأُسودِ
بِهمْ يَزدَهي ويتيهُ العَرينُ
ج
وعندما أحس وزير الدفاع الإسرائيلي (اسحق رابين) بعجز جنوده عن إخماد الانتفاضة؛ لجأ إلى الأمنيات والأحلام، ولقد تمنى أن يصحو في يوم من الأيام ليجد قطاع غزة قد أغرقه البحر؛ فأجابه شاعرنا بقصيدة كان مطلعها:
عروسُ البحر يا "رابينُ " لا يغرقها البَحْرُ
ولا يغرقُها الحقد الذي تحملُ والشرُّ
فكم أيدٍ كسرت بها وما ركعها الكسرُ
وكم أم بها رمّلتَ ما أرهبها الغدرُ
ج
وكم طفلٍ بها يتمّتَ شبّ لواؤه الثأرُ
حجارتُها التي ثارت بوجْهكُ عَسْكَرٌ مَجْرُ
وفي قصيدته إلى وردة فلسطين سنوسة الكرمل الشهيدة (هنادي جرادات) يقول:
ما الَّذي قَالتْ "هَنادي"
عِنْدما قيلَ لها استُشْهِدَ " فادي"
عِندما غِيلَ الخطيبُ الحُلو بالسَّهم المُّعادي
مُنْذها، والثأرُ للحلوين في أحداقها
يَدعو "يُنادي"
يا "هَنَادي"
يا "هَنَادي"
ثأْرُنا في العُنُقِ الطَّاهِر،
في نبض الفُؤادِ
"لن ينامَ الثَّأرُ "
قُوليها، أعيديها "هَنَادي" ...
يعتبر شاعرنا من الأعضاء المؤسسين لاتحاد الكتاب الفلسطيني عام 1966، وعضو منتخب لأول أمانة عامة للاتحاد. وكذلك في اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين، وعضو منتخب لأول أمانة للاتحاد عام 1972، ومثّل فلسطين في مؤتمرات الكتاب العربي، ومهرجانات الشعر منذ عام 1958، كما اختير عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني.
اختيرت العديد من قصائده ضمن المناهج التعليمية في الوطن العربي، وكتبت عنه العديد من الدراسات، وتناولت أشعاره الكتب الأدبية والفكرية، كما قدمت عنه عدة رسائل جامعية في مقدمتها الرسالة التي تقدم بها الدارس من فلسطين المحتلة (زهير عبد القادر العتياني) لكلية الآداب قسم اللغة العربية جامعة الإسكندرية، بعنوان: (هارون هاشم رشيد – آثاره واتجاهاته الشعرية)، والتي أشرف عليها الدكتور محمد مصطفى هدارة. كما كتب عنه ( صالح الأشتر، كامل السوافيري، ناصر الدين الأسد، صالح أبو اصبع..).
وقد أثرى الشاعر المرهف هارون رشيد على الشعر المعاصر بطائفة من الدواوين، والملاحم الشعرية ومنها : (مع الغرباء - ديوان شعر - القاهرة 1954، عودة الغرباء - ديوان شعر - بيروت 1956، غزة في خط النار – بيروت 1957، أرض الثورات – ملحمة شعرية – بيروت 1959، حتى يعود شعبنا - ديوان شعر - بيروت 1966، سفينة الغضب - ديوان شعر 1968، رحلة العاصفة - ديوان شعر – 1969، سنوات العذاب – قصة - 1969، فدائيون – عمان 1970، مزامير الأرض والدم – بيروت - 1970، رسالتان - ديوان شعر – 1986، صباح الخير يا غزة – القاهرة – 2008، أحبك يا قدس – ديوان شعر – دمشق 2009، جسور العودة – مسرحية – دمشق 2009). وله العديد من الكتب منها كتابه (إيجار بلا شطآن) وهو فصول من سيرة ذاتية صدر عن دار المجدلاوي في عمان 2004، وأصدرت له (دار العودة) في بيروت عام 1981 ما كان قد أصدره حتى ذلك التاريخ من شعر بعنوان: (المجموعة الشعرية الكاملة).
حصلت أعماله الشعرية والأدبية على العديد من الأوسمة والجوائز، حيث فازت مسرحيته الشعرية (السؤال) الصادرة عن دار روز اليوسف في سلسلة الكتاب الذهبي عام 1972 بجائزة المسرح الشعري الممنوحة من (الالسكو) المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم عام 1977، وفي احتفال كبير أقيم في فندق هيلتون في تونس حصلت قصيدته (إنسان الغد) على الجائزة الأولى من القسم العربي عام 1998، بمناسبة مرور خمسين عاماً على تأسيس القسم، وفي احتفال كبير أقيم على مسرح الجمهورية بالقاهرة عام 1990 قلّده الرئيس الراحل ياسر عرفات وسام القدس للثقافة والآداب والعلوم؛ تقديراً لإسهامه الإبداعي في مسيرة الثقافة الوطنية الفلسطينية، وفي عام 1999 منحته السلطة الوطنية الفلسطينية جائزة فلسطين التقديرية، وفي عام 2004 منحته مؤسسة يماني الثقافية جائزة (الإبداع في الشعر) عن ديوانه (طيور الجنة.. قصائد للشهداء)، وفي نفس العام حصل على جائزة تكريمية مع ثلاث شخصيات عربية وعالمية من قبل مؤسسة باشراحيل للإبداع الثقافي، وتسلم وسام السلطان قابوس للثقافة والفنون عام 2007، وفي عام 2008 في احتفال كبير تسلم من وزير الاعلام الكويتي جائزة (عبد العزيز الباطقين) التكريمية للإبداع الشعري، ومازال شاعرنا الكبير يتمتع بالصحة والعافية، ويقيم في القاهرة إلى الآن، وله من الأبناء ستة هم : (أمين، مأمون، معتصم، مسعتز، أديب، كرم).