خطاب فلسطيني ليس على المقاس الأمريكي ..!

بقلم: محمد السودي

وقف الرئيس الفلسطيني على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد حوالي عامين من نيل فلسطين شهادة ميلادها بصفة دولة مراقب يدقّ ناقوس أوان ساعة الإستقلال ، مخاطباً دول وشعوب العالم الذي طالما تغنى بالحرية وحقوق الإنسان حول ضرورة إنهاء الإحتلال منبع كل الشرور وفق جدول زمني محدّد يرفع المظلمة التاريخية بل الجريمة الدولية المستمرّة التي وقعت على كاهل الشعب الفلسطيني منذ ستٍ وستين عاما باعتبارها أطول وأخر الإحتلالات الكولونيالية في العصرالحديث ، تخللتها عقدين كاملين من المفاوضات العقيمة احتكرتها حصرياً الولايات المتحدة الأمريكية لكنها باءت بالفشل الذريع نتيجة العقلية الصهيونية المتطرفة المرتكزة أساساً على العدوان والمطامع التوسعية الإستعمارية التي تعتبر ان "قيام دولة فلسطينية مستقلة بين النهر والبحر ستكون بداية نهاية إسرائيل " ، لذلك لم تكن مستعدّة ولن تكون معنية على الإطلاق بالوصول إلى تسوية عادلة وفق معادلات الجمود الراهنة تعيد الحقوق لأصحابها الحقيقيين وبالتالي استطاعت نسف جهود "جون كيري" وزير الخارجية على مدى ثمان أشهر من المماطلة والتسويف تلقـّى خلالها إهانات الحليف الإستراتيجي وإظهار إدارته بالعاجزة الفاقدة للمصداقية والإرادة الحقيقية الكاظمة للغيظ لاعتبارات تمليها وقائع الهيمنة والنفوذ وسطوة أصحاب المصالح على صناعة القرار الأمريكي المُرتهن للحسابات الداخلية الإنتخابية التقليدية حيث بات يعلمها الجميع ولا تحتاج إلى توضيح أو تأويل .

ما الذي دفع الإدارة الأمريكية لسرعة الغضب الذي عبّرت عنه الناطقة بلسان وزارة خارجيتها "جينفر بساكي" قبل أن تصدر حتى ردود أفعال أقطاب حكومة الإحتلال، بوصفها خطاب الرئيس بالمهين والمستفز والمخيب للأمال ؟ وهي تعلم علم اليقين قبل غيرها أن ماقيل في الخطاب الفلسطيني ماهو إلا غيض من فيض وأقل بكثير مما ينبغي أن يقال ويجري على أرض الواقع من ممارسات وفظائع ليس لها مثيل تفوق جرائم الحرب النازية ، أو وحشية المجموعات الإرهابية المتطرفة المصنوعة للإستخدام أوالمسكوت عنها بما يخدم مخططات إعادة رسم خريطة المنطقة وتهشيم عناصرالدولة القومية وتحويلها إلى كيانات هزيلة متناحرة طائفياً وعرقياً مايجعل منها تابعة وملحقة يسهل السيطرة على مقدراتها ، ربما كانت تريد الإدارة الأمريكية أن يتقدم الرئيس الفلسطيني بالشكر والعرفان على وقوفها المنحاز اللامحدود إلى جانب العدوان فضلاً عن التزامها بالوعود التي تعهدت بها بدءا من بدعة حل الدولتين التي لايعلم إلا الله أين ستقام إحداها ، مروراً بإطلاق سراح الأسرى القدامى وليس انتهاءاً بتحميل المسؤولية لحكومة الإحتلال التي أفشلت المفاوضات واستثمرتها على أكمل وجه غطاءً لتنفيذ مشاريعها الإستيطانية بوتائر مضاعفة .

كما لا يعلم أحد حتى هذه اللحظة أين تكمن الإهانة والإستفزاز الفلسطيني ولمن ؟ إذا كان الأمر يتعلق في مسعى استصدار قرار أممي مُلزم من مجلس الأمن ينهي الإحتلال ويطالب نيل الحرية ويجسّد الإستقلال الوطني الناجز للشعب الفلسطيني على أرضه ووطنة حسب قرارات الشرعية الدولية التي صاغت الإدارة الأمريكية بنفسها جزءاً من هذه القرارات لكنها ظلـّت حبيسة الأدراج تتأكلها غبار الزمن ، في حين حصلت بعض الدول الناشئة خلال أسابيع قليلة على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة والإعتراف الدولي بها مع أنها لاتتمتع بمقومات الدول المستقلة .

لم يتضمّن خطاب الرئيس الفلسطيني سوى نقل الوجع الفلسطيني واختزال المأساة التي لم يعد يحتملها بشر نظراً لطول قائمة الإنتهاكات التي تندرج في إطار جرائم الحرب والإبادة الجماعية والتمييز العنصري ، ولو لم يتعامى العالم عن أهوال الكوارث المروّعة التي حلـّت بالشعب الفلسطيني من دمار شامل وقتل الأطفال والشيوخ والنساء وتهديم المنازل فوق رؤوس ساكنيها واستهداف المدارس والمساجد وانتهاك المقدسات وكافة مناحي الحياة جراء العدوان الشامل على الأراضي الفلسطينية وقطاع غزة المنكوب بشكلٍ خاص وإظهار مدى الحقد العنصري الدفين على الإنسان الفلسطيني ، لكان من أولوياته القصوى تشكيل تحالف دولي ضد إرهاب الإحتلال المنظـّم وعصابات مستوطنيه ، لكن كل شيء يكون مختلفاً حين يتعلق الأمر بالكيان الذي لايخضع للمسائلة والقوانين الدولية ماجعله يتمادى في ممارساته العدوانية والإستخفاف بكل القيم الإنسانية حتى أضحى يصدق الوهم الذي صنعه بنفسه بأن جيش احتلاله يمتلك من المناقب الأخلاقية مالم يمتلكه أيٍ من جيوش العالم يالها من أكذوبة فاضحه كشفتها وسائل الإعلام الأجنبية قبل العربية بالصوت والصورة على الهواء مباشرة كيف يقتل الأطفال وهم يلعبون الكرة على شاطىء بحر غزة ، وكذا استهداف مدارس وكالة الغوث وإبادة عائلات بأكملها وغيرها الكثير مما يدحض زيف الأكاذيب الجوفاء ولعب دور الضحية التي لم تعد تنطلي على أحد في عصر سرعة نقل المعلومات وتبيان الحقائق من غير رتوش .

ان الإدارة الأمريكية التي حرفت أنظار العالم عن جرائم حكومة المستوطنين باتجاه إقامة تحالف دولي انتقائي بمشاركة دول عربية ضد بعض المجموعات الإرهابية حيث استولت على أراضي شاسعة من العراق وسوريا وبسطت نفوذها بقوة السلاح هناك دون الرجوع الى مجلس الأمن الدولي أو تقديم استراتيجية واضحة المعالم كي تبقي الغموض وتستثني الإحتلال منبع الإرهاب ومصدر كل الشرور في المنطقة ، تتجاهل عن سابق إصرار الأسباب والبيئة الحاضنة التي نمت في كنفها هذه المجموعات المتطرفة ذات الجذور الفكرية التكفيرية ومتى ظهرت وأين ترعرعت وكيف تم استخدامها ؟ لقد كان العراق خالياً من كل انواع التطرف وكذلك كانت ليبيا وسوريا وتونس واليمن قبل الغزو الأمريكي للعراق وإسقاط الدول واحدة تلو الأخرى بما في ذلك الحليفة لها والتي لازالت تنتظر أيضاً ، خدمة لذات الأهداف والشراكة الإستراتيجية مع اسرائيل ، لهذا أرادت شن حرباً جوية قد تستغرق سنوات حسب قولها مع أنها تدرك بما لايدع مجالاً للشك عدم مقدرتها كسب هذه الحرب عبر الغارات الجوية دون أن يسأل أحد عن الجهات المموّلة التي ستدفع المليارات من الدولارات لتغطية نفقات هذه الحرب فضلاً عن تدمير البنى التحتية والمنشأت المدنية والخدمية الأخرى تحت ذرائع تجفيف منابع تمويل الإرهاب .

لقد فوّت النظام الرسمي العربي مرة أخرى فرصة لاتعوض عندما استجابت للمشاركة بالتحالف الدولي ضد مايسمى بالإرهاب دون أخذ مصالح قضاياها الجوهرية بعين الإعتبار وفي المقدمة منها إنهاء الإحتلال مايؤكد على تبعية هذه الأنظمة وخضوعها للإملاءات الأمريكية بالرغم من ادراكها أن لاصداقات دائمة في مضمار السياسات الأمريكية بل لى العكس من ذلك هناك مصالح دائمة بغض النظر عن الجهة التي تتبوأ مقاليد الحكم هنا أو هناك ، يبقى القول الفصل لإنجاح خطة طريق إنهاء الإحتلال مرهون بمدى تماسك الجبهة الداخلية الفلسطينية واستعادة الوحدة الوطنية الميدانية المتجسّدة أثناء المحرقة التي أقدمت عليها الحكومة الفاشية الإحتلالية وتمكين حكومة التوافق الوطني المناط بها مهمات إعادة مادمره العدوان على قطاع غزة وتوحيد المؤسسات المدنية والأمنية وتفعيل المؤسسات التنفيذية والتشريعية ، والأهم من كل ذلك بناء استراتيجية وطنية شاملة قائمة على الشراكة في صنع القرار الوطني تكون قادرة على مواجهة أعباء المرحلة الجديدة التي ستكون قاسية وصعبة وتحتاج إلى أدوات كفاحية ونضالية من نمط مختلف عن السياقات السابقة ... فهل تتوفر الجاهزية لذلك.