جدلية النصر والهزيمة في العدوان على غزة

بقلم: مصطفى يوسف اللداوي

مازال الطرفان المتحاربان، الفلسطيني والإسرائيلي، يتنازعان النصر، ويدعيان الفوز في الحرب، وكسب المعركة في القتال، وأن كلاهما قد حقق ما خطط له، وأنجز ما يريد، ونال ما تمنى، وأنه أرغم خصمه بالقوة، وانتصر عليه في الميدان، وألحق به خسائر في الأرواح والممتلكات، وأضر به وبمكانته العسكرية والمعنوية، وأحبط قدراته القتالية، الدفاعية والهجومية، وكشف عيوبه العسكرية، وفضح ثغراته الأمنية، في الوقت الذي يدعي فيه أن خصمه لم ينتصر عليه، ولم يرغمه، ولم يلحق به هزيمةً، ولم يسجل عليه نصراً، ولم يؤثر في معنوياته، ولم يضعف قوته، ولم يفت في عزيمته، ولم يجبره على القبول بما كان يرفضه، ويتهمه بأنه يخفي خسائره، وينكر نتائج المعركة، ويحاول أن يثبت عكس الوقائع، ونقيض الحقائق.

وعلى هذا الانتصار المدعى يسوقُ كل فريقٍ أدلةً وبراهين، ويستعرض شواهد وقرائن، ويذكر وقائع، ويأتي بشهود عيانٍ، وبضحايا ومتضررين، ومشاركين ومساهمين، ويتيح المجال للمحللين والمراقبين، والمتابعين والمختصين، ويطلق العنان للناطقين باسمه، والمعبرين عنه، والمؤمنين به، من الإعلاميين والسياسيين، لبيان نصره، وتأكيد فوزه، وتثبيت النتيجة على حالها التي يظنون ويعتقدون أنها نصرٌ ناجز، وفوزٌ كاسح.

لكن الفريقين يعتمدان كثيراً في تثبيت نصرهما، وبيان كسبهما للحرب على العواطف والمشاعر، ويتكئان على المخزون الكبير من الحماس واليقين، والوعي والثبات، والإرادة والاعتقاد أنهما على الحق، ويدافعان عن حق، وأن العالم يفهم موقفهما، ويؤيد سياستهما، ويدين سلوك الطرف الآخر ويشجبه، ولهذا يرى كل فريقٍ أنه انتصر وفاز، وأنه حقق ما أراد، ونال ما تمنى، وأن هذه الحرب قد أدبت الخصم، ونالت منه وعلمته، وأنه لن يفكر مرة أخرى في نقض الاتفاق، ونكث الهدنة، والعودة إلى القتال.

يبدو أن الفريقين في وادٍ وشعبهما في وادٍ آخر، فهما يتحدثان بفوقية ونرجسية، وبكثيرٍ من الإهمال وعدم المسؤولية، ولعلهما يعانيان من انفصامٍ في الشخصية، أم أنهما مصابان بالعمى فلا يرون، وبالصمم فلا يسمعون، فهما لا ينظران إلى حقيقة ما خلفته الحرب، وما سببه العدوان، ولا يحسبان النتائج الكارثية التي نجمت عن أكثر من خمسين يوماً من القتال العنيف، والقصف الشديد، والخراب المنقطع النظير، وكأن الحرب كانت نزهةً حقيقية، وأنها لم تخلف وراءها ما خلفت من آثارٍ يصعب نسيانها، ودمارٍ لا يسهل إصلاحه، وأضرارٍ يتعذر تعويضها وتجنب آثارها.

العدو الإسرائيلي لم يتمكن من تحقيق أيٍ من أهدافه التي أعلن عنها، وهي تفكيك المقاومة، وتدمير مخزونها من الأسلحة، ومنعها من إطلاق صواريخها على البلدات الإسرائيلية، وقتل وتصفية قيادات وكوادر المقاومة السياسية والعسكرية، وفشل في عزل المقاومة عن الشعب، ولم يتمكن من إحداث شرخٍ بينهما، إذ بقي الشعب سنداً للمقاومة، ونصيراً لها، ومدافعاً عنها، وحاضناً لرجالها، وآوياً لأبطالها.

كما لم يتمكن العدو الإسرائيلي من تأمين مستوطنيه، وتحقيق الأمن لهم، وإبعاد خطر الصواريخ عنهم، إذ استمر هروبهم من المستوطنات والبلدات الحدودية، وتلك التي تقع تحت مرمى صواريخ المقاومة، وخلت شوارع المدن والمستوطنات من السكان، الذين لجأ أغلبهم إلى الملاجئ، أو فر هارباً خارج البلاد، أو حاول النأي بنفسه عميقاً داخل الكيان، ولكن الحياة الاقتصادية تعطلت، والمؤسسات أغلقت، وتأخر بدء العام الدراسي، وتوقفت الحافلات العامة، وأصبح المطار الرئيس تحت مرمى الصواريخ فتوقفت الرحلات الجوية، وامتنع الإسرائيليون عن عقد الاجتماعات، وإحياء الحفلات، والتجمع في الأماكن العامة.

كما اخترقت المقاومة الفلسطينية التحصينات الإسرائيلية، فهزأت من جيشهم، وفاجأت أمنهم، واخترقت الحدود، ونجحت في عمليات إنزالٍ برية وبحرية خلف صفوفه، ونكلت به، ونالت منه، وعرضته للسخرية والتهكم، ونجحت في الإيقاع به في شراكها، ونصبت له العديد من الفخاخ، وأدخلته في الكثير من البيوت الملغمة، قبل أن تفجرها بجنوده، وتلحق بهم خسائر فادحة، فضلاً عن نجاحها في أسر جنودٍ، أو الاحتفاظ ببقايا أشلاء، ونقلهم بعيداً عن أعين العدو ومراقبته.

ونجحت المقاومة في الوصول إلى عمق الكيان، وإلى شمال الوسط، وإلى القلب حيث عاصمته المزعومة، فأصابت أهدافاً بدقة، وأرعبت العدو ومواطنيه، وإن لم تتسبب في مقتل الكثير منهم، إلا أنها كانت دليلاً على القدرة، وإشارة على التمكن والإرادة، ما جعل العدو يفكر كثيراً في الخطوات التالية، التي ستعني له دخول كل البلاد في دائرة الخطر، وتعرضها لألسنة اللهب التي تنذر بالأسوأ.

لكن الصورة الأخرى التي خلفها العدو وراءه في قطاع غزة، فقد كانت في عدد الشهداء الذين ناهزوا الألفين، والجرحى الذين اقترب عددهم من ثلاثة عشر ألفاً، فضلاً عن الخراب والتدمير الواسع، الذي لم يترك وراءه شيئاً سالماً، ولا جداراً قائماً، ولا مؤسسةً عاملة، ولا بيتاً مسكوناً، ولا مسجداً معموراً، ولا أحياء مأهولة، ولا أشجار مثمرة، ولا أراضٍ مزروعة، ولا شئ آخر يصلح للحياة، وينفع لمواصلة العيش.

حتى لا أصنف مثلهم، فأكون من مدعي النصر، ومن المتغنين به، وأردد مقولات أحد الفريقين، معززاً لها، ومؤيداً ما جاء بها، فإنني أؤكد أن زمن الانتصارات الصفرية قد انتهى، ولم يعد هناك معارك تنتهى بهزيمة مطلقة، ونصرٍ حاسم، فلا عدوٌ يفنى ولا خصمٌ يندثر، فقد حل مكانها في العصر الحديث معادلات "رابح رابح"، و"خاسر خاسر"، وهي معادلة واحدة، تحمل نفس المعنى والنتيجة، إذ أن "رابح رابح"، تعني "خاسر خاسر"، إذ أن النصر نسبي، كما أن الهزيمة نسبية، طالما أن أحد الفريقين لم يقضِ على الآخر، أو لم يدحره من أرضه، أو لم يحتل بلاد الخصم أو جزءاً من أرضه.

لكننا نريد وبإصرار أن نكون نحن المنتصرين، ونريد أن يكون عدونا هو المهزوم المدحور، ولا نريد لعدونا أن يشمت بنا، ولا أن يضحك علينا، ويسخر منا، فنحن رغم كل ما أصابنا وما حل بنا، فإننا نؤكد أن شعبنا هو المنتصر، فهو الذي ضحى وقدم، وهو الذي صبر وعض على الجرح، وشد مئزره، وتسامى فوق ألمه، فهذا هو حال كل الشعوب الثائرة، والأمم المنتفضة، التي تعطي بلا حساب، وتضحي بلا تردد، وشعبنا في هذا رائد وسابق، وأستاذٌ ومثال.

النصر الذي نتطلع إليه بصدقٍ وجدارةٍ، نراه في وحدةٍ فلسطينية، وتراصٍ شعبي، وتلاحمٍ فصائلي، واتفاقٍ بين أبناء الوطن كله، وهذا يتحقق في عدالةٍ ومساواة، وفي حسن رعايةٍ وصدق متابعة، وفي سرعة نجدة، وفي استعجال عونٍ، وفي المبادرة في الغوث، فشعبنا يتطلع إلى بيتٍ يأويه، وعملٍ يكفيه، وتكافلٍ يحفظه ويمنعه، فلنعجل به بصدقٍ لينعم شعبنا بنصره، ويندم عدونا على اعتدائه، وإلا فإن سحائب الهزيمة السود ستظللنا، وأصوات الثكالى ستلاحقنا، ولعنات الشعب الطيب المسكين ستطاردنا.