بدأت حرب شرسة علي فلسطين بدأت بالضفة الغربية من الخليل وتدحرجت الي رام الله ونابلس والقدس حتي استقرت بقطاع غزة واستمرت ما يقارب الشهرين من الموت المبرمج والمخطط له سلفاً والذي كنا فيه منعزلين عن العالم الخارجي بفعل هذه الحرب المسعورة والتي فقدنا بها اغلي وأثمن الأشياء من أرواح وممتلكات وكل شيئ لكن بقت الكرامة والرجولة ، في هذه المحرقة المدمرة علي شعبنا والذي صمد بها شعبنا وسجل أسطورة من أساطير هذا الزمن وخرج من تحت الركام ليقول للعالم انتصرت غزة ونحن شاهدين علي ذالك التاريخ الذي كان ولازال وسيبقي في ذاكرتنا ، فتم النقش في ذاكرتي وذاكرة أبنائي وأحفادي ايضاً أيام هذه الحرب والتي استنشقت بها رائحة الموت وخاصة ذاك اليوم الأسود الذي خرجت من بيتي في نحو السادسة صباحاً بعد أن زاد حمى وطيس المعركة, واندفعت في " الزقاق " ابحث عن مخرج لعله ينقذني أنا وأسرتي من حمم تنزل من السماء، حياني رجل يحمل جثة , وسمعت سعالا لعجوز مريض , وكان ثمة رائحة تأتي من أقصي الزقاق يبدو انه طعام إفطار لصائمين الذي لم يتناولوه بالأمس لاستشهادهم وقد فسد طعامهم وتحللت جثثهم, وسمعت صراخ ينادي إلى أين يذهب هذا الأحمق ؟ كلنا في " الزقاق". امشي وامشي بل الجميع يركض إلي أين لا نعلم ولا ينتهي " الزقاق " : مرت جنازة شهيد , وكأنها " زفة عريس " , ونساء جلسن على عتبات البيوت بغية ان يمشي العمر ببطء : أعاقني حبل غسيل نصبوه بالعرض ـ ألاحظ أنهم غسلوا الرايات واليافطات التي استخدمها الشباب في مسيرات البارحة ـ ما تزال تقطر دما على آي حال .امشي وامشي ..." أم زيد " أحاطت مدخل منزلها بأكياس رمل تحوطاً , و" ابو تيسير " يشوي باذنجان على نار أضرمها بنفسه , ونلمح في الخلفية صوره ل " غسان كنفاني": وأبو تيسير في اليوم التالي لا يأكل ـ انه ينتظر " مدفع الإفطار ولا يميز علي أي صوت مدفع يفطر" ـ لسنا في " رمضان" . فأستمريت امشي وامشي في " الزقاق " . كانت ليلة لا تنتهي , والدنيا حر , وضجري بتعزز : كنت أتمني من الله لو يبزغ نهار البارحة حالا ـ أريد البارحة , وأريد ان أتقدم في العمر بالعكس : اكتفي بهذا القدر من الخيبات ـ أضع نقطة , ولا أواصل / الاستمرار عبث , وغدا مشكلة , ويوم الثلاثاء القادم لعين . والخميس العن .كلنا نعرف البارحة جيداً , ولم نتأقلم معه . وهنا نضع نقطة ولا نستمر : نرفض أي حديث عن " المستقبل " / يكفينا ما فينا : لن نحتمل ما سوف يجيء ـ أخذنا نصيبنا من الإرهاق والخراب. الا ان الحرب بدأت تزيد يوماً بعد يوم ومازلت انا والآخرين حولي نستنشق رائحة الموت فكانت تفجيرات في كل مكان وجثث في كل أنش من الأرض بدء القصف علي منتصف "الزقاق" والكل يركض....... ثمة هناك رجل يمسك بقدمه اليسرى المبتورة، وامرأة عجوز بجانب ألواح نبات الصبر تمسك بيدها اليمني المبتورة ، ولم يقفوا عند هذا الحد بل اجزم إنهم استشهدوا بعد حين .فلم يسلم شبر واحد من القصف والدمار ونحن نركض في كل الاتجاهات بل الجميع يركض كنا متوضئين بل صائمين ننتظر الموت في كل ثانية ولكن كم يلزم من موت ؟ حددوا انتم الرقم والنسبة لكي ندفع مرة واحدة : أعمارنا " كاش " . وفكرة التقسيط غير مستحبة أبدا . والدم متكامل لا يخضع لدلف رتيب / قطرة قطرة / وهذه الأشلاء كانت جسدا وافيا قبل قليل .نحن بالجملة : خُذونا على هذا الأساس .بجد كم يلزمكم من موتنا ؟ وكم عدد سنابل القمح في السنبلة الواحدة ؟ ومتى يقتنع القتلة إن الموتى يخرجون إلى الدوام : الموت باعتباره وظيفة .حددوا انتم الرقم كي نأمن جانبكم . قولوا . حالا . وفور نحن ألان في المقبرة : دفنا سبعة وعشرين شهيد في وجبة واحدة في إفطار صائم كان الأخير........... بعد ساعة تم قصف المقبرة لمنع ايقاض الموتى أو أشلائهم من جديد .... قولوا ، حالا وفوراً حددوا انتم الرقم , فما يزال لدينا متسع من عويل. رغم هذا كله احتفظنا برؤوسنا عالية في السماء وقت أن كانت جباهنا تنزف الدم والألم والمرارة......ربما يأتي يوم لنتذكر وندرس ونُعلم أولادنا وأحفادنا جيلاً بعد جيل، قصة الكفاح ومشاقة، ومرارة ترك العالم الظالم لنا لوحدنا، وكيف حلاوة النصر وآماله.......نعم سوف يجئ يوم نجلس فيه لنقص ونروى ماذا فعل هذا الشعب العظيم.. وكيف حمل أمانته وأدى دوره، كيف خرج الأبطال من هذا الشعب وهذه الأمة في فترة حالكة ساد فيها الظلام, يحمل مشاعل النور وليضيؤا الطريق حتي تستطيع أمتهم ان تعبر الجسر مابين اليأس والرجاء. فعلي الشعب ان يأمن بعد ان أصبح له درع وسيف ،هذا كل ما يتبقى من " وطن " ..... ولازال للوطن قصة لم ارويها بعد؟
د.هشام صدقي ابويونس
كاتب ومحلل سياسي
عضو الأمانة العامة لشبكة كتاب الرأي العرب