جسدٌ غدَره الزّمن

بقلم: عطاالله شاهين

يتلعثمُ اللسان ويتوه الأُفق أمامي، وأنا أقفُ مصدوماً مِنْ رؤيتي لامرأةٍ بلا جسد، تتسمّر أمامي بعينيها الغائرتين، وجِلدها المُلتصق بهيكلها العظمي .. امرأةٌ حنى الزّمن ظهرها وتقوّس، وغزا الشّيبُ شعرها ، وحفرتْ التّجاعيد محيّاها .. كانتْ تقفُ على الرّصيف بلا كلام، وكأنها بلهاء، لكنّني حدّقت بعينيها الغائرتين في جبينها المتجعد .. فشاهدتُ مآسي الدُّنيا. وأيقنتُ بأنّها ضحيةُ فقر احتلّ جسدها وأنهكها. وحينما استمررتُ في التّحديق رأيتُ العجب العجاب.

كانتْ عيناها تحكيان لي قِصّة الموت، هي تقفُ أمامي بلا كلام .. واجمة كالمرآة المكسورة، وكأنّ الكلام انتهىى وتوارى .. ولكنّني فهمتَ أنّ الحاكمَ قتلَ الشّعب، حاكمٌ سرقَ البلادَ ، وخلّى الشّعب مُتسولاً، امرأةٌ بلا جسد تقفُ عاجزةً عنْ الكلام .. ففهمتُ مِن عينيها الحزينتين بأنّ لا حول لها ولا قوة ، والحكومة في تلك البلد لا تُبالي بنسوةٍ مثلها، فهي لمْ ترِدْ مِنّي شيئاً سوى الابتسامة ، وبدل الابتسامة سالتْ مِنّي دمعتين، وعرفتْ هي بأنّ الدُّنيا فيها بقايا أُناسٍ طيبين.

حاولتُ التّكلم معها ، ولكنّ لساني بقي مُتلعثماً، فالصّورة كانتْ أمامي قاتمة، ولمْ يكن المشهدُ فرِحاً، امرأةٌ بلا جسد قتلتني بهيئتها.. تطلُّ عليّ وكأنّها أتت مِنَ العدم..

تراني عاجزاً عَنْ الكلام، فتُدرك أنّ المشهدَ حزينٌ، وأنا أقفُ حزيناً لدرجة البكاء .. لا أقدر على التّزحزح، من مكاني .. كانتْ تقفُ بانحناءِ ظهرٍ قتله الكدْح، في زمنٍ ولّى .. جسدٌ بلا لحم ، وعظمٌ يُكاد يبرز مِنْ تحت جِلدها المُتهدّل.

فالصّورة ما زالت عالقة بذاكرتي لامرأةٍ بلا جسد.. امرأةٌ تستعد للمنيّةِ بكُلِّ حزمٍ .. فهي لنْ تعودَ كما كانتْ، امرأةٌ جعلتني أبكي كُلّما أتذكر معاناة الناس.. تركتها تذهبُ لوجهتها، وأنا عُدتُ مهموماً إلى مهجعي لأُصلّي.

فالصّورة لامرأةٍ بلا جسد ما زالتْ مُعلقةٌ على جُدرانِ ذاكرتي.. وكُلّما أراها ابكي بحرقة، فالصّورة ما زالتْ قاتمة ولنْ تصبحَ مزهوةً ما دام الفقر يتفشّى.

فرفقاً يا ذاك الحاكم بنسوةٍ تُركنَ، للزّمن الصّعب، فأنا كُلما هممت بالنّعاس على وسادة الأحلام ، أراها أمامي تبكي وتسأل بشفاهها المتشققتين، لماذا الزّمن غدّار؟

وتتمتم هل خلقنا للعذاب أم خلقنا هكذا بلا هدف ، أم فقط للقتل والحسد والغيرة ؟، أنا منذ البداية أدركتُ بأنّ الانسانَ خُلق وحشاً، وذلك عندما قتلَ قابيلُ أخاه هابيل .. هكذا كانت تقولي لي تلك المرأة بظهرها المنحني.. هكذا كانتْ تقول لي عندما أتاني الحُلم عنوةً ، وأنا أهزّ رأسي أي بمعنى أوافقها رأيها ... فجسدها حناه الزّمن الغادر وجعله يتقوّس ويذبل كوردة تاقت لماء عذب ولم تجده.. لأن الحياة للقوي فقط .. والضّعيف له توسلاته وأدعيته ودموعه ..