ما عانى منه الاقتصاد الفلسطيني وتحديداً الغزي خلال السنوات السبعة الأخيرة (2014-2007) وما حملته تلك السنوات من تشوهات سواء في الإنتاج أو الاستهلاك يعتبر من أسوء حالات اللا استقرار واللا توازن؛ مما يعني إمكانية أن يُسمى باقتصاد فاقداً للتوازن , وهذا الفقدان الفعلي للتوازن والاستحالة في الحد منه في الوقت الراهن بسبب بلوغ التشوهات إلى حدود كبيرة خصوصاً قدرتها على التغلغل في أهم القطاعات المكونة للناتج المحلي الإجمالي وهي القطاع الاستهلاكي والإنتاجي , وعلى الرغم من العديد من الدراسات التي بحثت في واقع الاقتصاد بغزة خلال تلك الفترة فإنها لم تصل إلى نتائج محددة ولم توفر تأصيل نظري لتلك الحالة , وعليه فإن ذلك الأمر استوجب أن يتم تحليل مؤشرات الاقتصاد الكلي في غزة وما يرافق ذلك من تداعيات اجتماعية والتي تفاقمت أكثر في الشهور الأخيرة ليس بسبب العدوان الأخير " الجرف الصامد" الذي استمر 51 يوماً ووضع أوزاره في 26-8-2014 وإنما نتيجة لتراكم الإخفاقات والتي مني به الاقتصاد خلال العشرون عاماً الماضية والتي لم تؤسس لمرحلة من البناء والترشيد بسبب عدم الجدوى في الخطط الحكومية لتحفيز الاقتصاد والسياسات الاقتصادية المتباينة في ذلك وعليه يمكن إبراز حالة التشوه بالاقتصاد الغزي على النحو التالي :
- القطاع الزراعي : ورغم أهميته في اعتبار أن الأرض هي الوطن والتي تأخذ مدلولات مهمة اقتصادية في توفير السلع والحاجات الإنسانية وتحقيق الأمن الغذائي واستعياب مزيداً من فرص العمل والحد من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية القائمة؛ ويكمن التشوه في الفجوة الأخذة بالاتساع بين الطلب والعرض على منتجات هذا القطاع , وكذلك ارتفاع أسعار المنتجات المحلية بين الفينة والأخرى وخصوصاً أسعار البيض والخضروات واللحوم وزيت الزيتون , رغم وجود مساحات كافية لإنتاج ما يكفي لتحقيق الاكتفاء الذاتي إلا أن ذلك لم يحدث لغاية الأن مما انعكس بالسلب على أداء الزراعة , كذلك وخلال فترة عمل الأنفاق على الحدود مع جمهورية مصر العربية (2013-2007) تم تهريب الفاكهة وزيت الزيتون والعسل الطبيعي وبعض المنتجات الزراعية المنتجة بمصر , وخلال تلك الفترة لم يتم تهريب مستلزمات الإنتاج الزراعي بما يكفي لنهضة هذا القطاع والحد من الفجوة الزراعية القائمة, كما أن نصيب الزراعة من موازنات السلطة الفلسطينية لم تتجاوز في أحسن الظروف على 1% وهذا التراجع في القطاع الزراعي والذي زاد في السنوات السبع الأخيرة ساهم في تراجع مساهمة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي حيث لم يزيد عن 8%, وبالنسبة للصادرات الزراعية من الفراولة والورود والتي تبلغ سنوياً 10 مليون دولار تراجعت منذ العام 2006 لحدود عشرات الآلاف من الدولارات خلال الفترة 2014-2006 إلا أن ارتفاع الصادرات الزراعية ( أحادية التصدير) أيضا تعاني من مشكلة ( التعاقد من الباطن) حيث أن الشركة المسؤولة عن تسويق الفراولة في الاسواق الأوروبية هي شركة إسرائيلية كذلك فإن مثل هذا المنتج يستنزف كميات هائلة من المياه الجوفية والتي بدأت تضمحل في العقود الأربعة الأخيرة , وفي السياق نفسه ولطبيعة المناخ الجيد فإن انتاج الفراولة في قطاع غزة ( بيت لاهيا تحديداً) يكون من أولى المواسم عالمياً وحتي ورغم القيمة المرتفعة لهذا المنتج في الأسواق الأوروبية إلا أن ما يصل للمزارع الفلسطيني ما زال منخفضاً وخلال السنوات السبع الأخيرة تراجعت الكميات المزروعة بحدود النصف تقريباً, وفقد المئات مصدر دخلهم نتيجة الإغلاق المستمر للمعابر , أيضاً فإن ظهور الأنفاق والموازنات الفلسطينية المتعاقبة لم تولي اهتماماً للقطاع الزراعي , وللجهاز المصرفي كذلك دوراً في تهميش هذا القطاع المهم والمنتج بطبيعته حيث لا يوجد بالأراضي الفلسطينية بنكاً مختصاً بتمويل الزراعة وإقراض المزارعين , كما أن البنوك التجارية القائمة لم تقدم تسهيلات إئتمانية مناسبة ولا توجد مؤسسات للتأمين مختصة بالزراعة مما يعني اضمحلال هذا النشاط مع الوقت, وهذا يظهر بقوة مع تراجع القطاع الزراعي خلال العقود الثلاثة الأخيرة فبعدما شكلت مساهمة الزراعة قرابة 35% من الناتج المحلي الإجمالي في العام 1967 في الوقت الراهن لا تزيد عن 8%.
- تشوه في البنية الهيكلية في الاقتصاد الغزي ككل, ففي مجال الصناعة فهناك تحو ل من الأنشطة الإنتاجية المرتبطة بالصناعة إلى أنشطة منخفضة الإنتاجية ومتدنية الأجور , حيث أنه ومع إغلاق مئات المنشآت الصناعية بسبب الحصار والإغلاق وسياسة الإغراق المتبعة من قبل الصناعات الإسرائيلية كل ذلك أدى إلى تراجع أداء الصناعة في قطاع غزة واقتصارها على بعض الصناعات الغذائية والتحويلية , وانتقال عدد من العاملين إلى أنشطة خدماتية غير منتجة , حيث تزايدت محلات البقالة ونشطت التجارة الداخلية رغم حالة الركود الاقتصادي التي يعانيها الاقتصاد الغزي, كذلك العمل كسائقي التاكسي وغيرها, وهذا ساهم بزيادة حصة ونصيب الخدمات لتفوق حدود 70% من الناتج المحلي الإجمالي, هذا الارتفاع غير مُجدي من الناحية الاقتصادية كونه لا يضيف قيم اقتصادية حقيقية ولا يحد من المعضلات الاقتصادية والاجتماعية القائمة مع تهميش لقطاعي الزراعة والصناعة الأكثر انتاجية .
- التشوه في أنماط الاستهلاك والإنتاج حيث أنه وعلى الرغم من حالة الركود في غزة إلا أن هناك أيضا تشوه في أنماط الاستهلاك ويظهر ذلك من خلال تزايد الإقبال الكبير أثناء عمل الأنفاق على السيارات الحديثة وبعض الكماليات الأخرى ونجم عن ذلك تزايد عدد معارض السيارات والمولات الاستهلاكية والفنادق السياحية رغم انعدام السياحة, والتشوه التي توجده شركة جوال لعملاءها وغيرها.
- ارتفاع الأسعار , حيث على الرغم من انخفاض الأسعار في فترات معينة وارتفاعها في فترات أخرى, إلا أن هذه الحالة التي يمر بها الاقتصاد الغزي ( نوفمبر 2014) وهي ارتفاع الأسعار مع تفاقم الركود, شبيهة بأشد حلقات الحصار عام 2008 حيث هناك ارتفاع في أسعار المواد الغذائية والخضروات والخدمات و التبغ والمعسل وخدمات المواصلات ومستلزمات البناء, والقاعات العامة وإيجار الشقق السكنية والأجهزة الكهربائية وغيرها, ورافق ذلك ارتفاع شديد في حالة الركود الاقتصادي وحدوث كساد في بعض الأنشطة الاقتصادية كقطاع الإنشاءات والمصانع المرتبط إنتاجها بالكهرباء والمواد الداخلة من إسرائيل والتي تًمنع من الدخول أم يتم إدخالها بكميات محدودة للغاية, وهذا يعني ارتفاع معدلات البطالة وتجاوزها حاجز أل 50% وارتفاع الفقر المُدقع ل 22% والفقر النسبي لحدود 70%, واعتماد أكثر من ثلثي غزة على المساعدات الخارجية , هذا الارتفاع في الاسعار مع تراجع دخل الفرد في غزة عن 1000 دولار سنوياً مقابل ارتفاع متوسط الدخل لمثيله بالضفة الغربية مع تزايد المساعدات للضفة والمشاريع الاستثمارية على حساب غزة زاد الهوة بين مستويات المعيشة بالضفة وغزة رغم أن مستوى المعيشة في كليهما منخفض قياساً بدول الجوار .
- ارتفاع معدلات البطالة والفقر في غزة رافقها تدني مستويات المعيشة مما يعني ذلك تفاقم المشكلات الاجتماعية حيث ارتفاع حالات الطلاق والتي تزيد عن 25 ألف حالة وفقط في العام 2013 بلغت حالات الطلاق بغزة 2825 حالة فيما بلغت عام 2007 حوالي 1527 حالة, وفقر الدم وسوء التغذية والتي تعاني منها الألاف من النساء الحوامل بغزة , وتزايد معدل الجريمة وتعاطي الأترادمادول وعدم اقتصار تناوله وتعاطيه على الشباب بل تعدى ذلك للأطفال في سن 15 عام, وتزايد النزاعات العائلية والتي تعود سبباً لحالة الفراغ والفقر المرتفعة .
- نشوء ظاهرة الانتقال العكسي للموارد ( هروب الأموال ) حيث أن ودائع الجمهور الفلسطيني تهرب للخارج تحت أعين سلطة النقد والتي تعتبر غير ملزمة ولا تمتلك سياسات نقدية مستقلة فهي ( كالبطة العرجاء وبعين واحدة), حيث تبلغ ودائع الفلسطينين في البنوك في نهاية العام 2012 حوالي 7884 مليون دولار في حين بلغ الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني لنفس العام 6747 مليون دولار , بمعنى أن ودائع الفلسطينيين تفوق ما ينتجه الفلسطينيين بالداخل , كذلك يكمن التشوه أيضا في أن أرباح المصارف واستثماراتها تكون بالخارج دون استفادة الاقتصاد الوطني منها حيث لا يتم توظيفها في مشاريع منتجة , حيث بلغت أرباح البنوك العاملة في الأراضي الفلسطينية منذ العام 1997 ولغاية أيار 2014 حوالي 1023 مليون دولار , في حيث بلغت الأرصدة النقدية بالخارج ( المُهربة ) فاقت 6 مليارات دولار أي تزيد عن حجم الدين العام الفلسطيني , كذلك فإن إجمالي الودائع في البنوك غير الفلسطينية ( الوافدة) أكبر من حجم الودائع الموجودة في البنوك المحلية, هذا يعني حدوث نقل عكسي للموارد المالية وبالتالي عدم نضوج سياسة نقدية فاعلة في الأراضي الفلسطينية حيث من الأولى القيام باستثمار تلك الودائع في الاقتصاد الغزي تحديداً في دعم قطاعي الزراعة والصناعة عبر إنشاء مدينة زراعية وصناعية توفر الاحتياجات المحلية وتقديم قروض بلا فائدة وإنشاء صندوق قومي للانقاد أبرز داعميه الحكومة ورجال الأعمال وكبرى الشركات العاملة في الأراضي الفلسطينية مهتمه توفير الأسمدة والمساعدات المالية والإدارية والفنية اللازمة للمزارعين , كذلك البدء بمشاريع ترتقي بالواقع الاقتصادي والاجتماعي كمشروع تحلية المياه والارتقاء بمستويات الصحة والتعليم شبه المجاني وذلك من خلال حشد الموارد المحلية وتوظيف الودائع وجذب أموال صغار المودعين من خلال اصدار سندات حكومية مضمونة تساعد في إنشاء مشروعات منتجة تحد من مشكلات الاقتصاد القائمة, وعليه فإن الموارد المالية التي من الممكن توفيرها ورغم محدوديتها إلا أن استثمارها وتوظيفها في قنوات محددة يمكن أن لا يحد من المشكلات القائمة وإنما يجعلها عند أدنى مستوياتها .
- الموازنات الفلسطينية للفترة 2014-1994 اهتمت بالقطاع الأمني وإن تراجعت في السنوات الأخيرة على حساب الخدمات والتقديمات الاجتماعية ( الصحة , التعليم, شؤون المراة, الشؤون الاجتماعية , وغيرها), إلا أن القطاعات التنموية والتطويرة ما زالت منخفضة ودون المستوى المطلوب , حيث لا تزيد موازنة الزراعة عن 1% من الموازنة الفلسطينية, وتمويل الموازنة ما زال يعتمد على المنح والمساعدات من جهة و الضرائب غير المباشرة ( المقاصة) من جهة أخرى, مما يعني اختلال في هيكل الاقتصاد الفلسطيني حيث العجز في الموازنة والدين العام والمساعدات تسير في اتجاه التزايد المستمر , وهذا الاختلال بحاجة إلى إعداد موازنة منتجة تولي اهتماماً أكثر بالزراعة والصناعة والبحث العلمي , والاهتمام بالشق الاجتماعي لكل سياسة اقتصادية متبعة, وتحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية عبر فرض ضرائب تصاعدية ودعم بعض السلع الأساسية وتنظيم الاقتصاد , والعمل على تخفيف حدة الاقتصاد غير المنظم والذي يشكل 16.9% من الناتج المحلي الاجمالي ويبلغ سنوياً 817 مليون دولار , وفي غزة بلغ في العام 2012 حوالي 2 مليار دولار.
- أيضا شهدت الفترة 2013-2009 استمرار للتشوه بسبب تراجع حصيلة السلطة الفلسطينية من الضرائب التي تجبيها من غزة , حيث خسرت السلطة سنويا ً وخصوصا ً في السنوات 2011-2013 سنوياً من 200-160 مليون دولار , وهو ما يشكل 12-10% من إجمالي الإيرادات الحكومية , في حين تذهب تلك الخسائر التي منيت بها الإيرادات الفلسطينية ( خسارة السلطة ) إلى عدد محدود من االمهربين وتجار الأنفاق, ومع رافق ذلك كذلك من ظهور بعض حالات النصب والتحايل عبر تشوه الاستثمار وتوظيف الأموال , كما أن من تشوهات غزة هي تصدير النقد في اتجاه واحد وهو مصر مقابل استيراد سلع استهلاكية فقط , كذلك لم يتم استيراد الآلات والمعدات اللازمة للانتاج , واقتصرت الواردات من الأنفاق على السلع سريعة الربح , وذات الجانب الريعي حيث عززت ذلك نقاط ضعف جديدة باقتصاد غزة , والتي يمكن تسميتها " برأسمالية غزة المًصنعة " القائمة على تخصيص المنافع ( عدد محدود من التجار والمستفيدين) و تعميم الخسائر ( أغلبية سكان غزة) .
وفي الختام فإن حجم التشوه التي يعانيها اقتصاد غزة والمتمثل بالاستهلاك والانتاج, والجهاز المصرفي, الموازنات العامة, القطاعات الاقتصادية , قد ساهمت باستدامة أمد المشكلة والتي تفاقمت في الوقت الراهن وخصوصاً بعد حرب الجرف الصامد والذي رافقته انهيار للبنية التحتية وتباطؤ الانشطة الاقتصادية .
هذه التشوهات شكلت حالة اللا توازن في اقتصاد غزة وتزايد اللا توازن يعني إشاخة للعقل !!!