إن الواقع التشخيصي للأزمة المصرية ومستجداتها المستمرة منذ عام 2011، ي ثورة يناير وتوابعها وزلزلاها يخضع في معظم حالاته لإملاءات العقل التراكمية القائمة على البنائية الأيديولوجية للمحلل سواء المنطلق من خلفية رؤياه السياسية، أو الأمنية، أو موقفه المسبق من احداثيات الصراع الداخلي والإقليمي والدولي الذي يعصف في المنطقة برمتها، وأصبح واقع يتم التعامل معه كأحداث ومتغيرات لا بد من التسليم بها، ومسايرتها، والوقوف إما على يمينها وتأييدها والتداعي معها، أو على يسارها ومخالفتها والتناقض مع احداثياتها، دون اسنادها للواقعية المرتكزة على أسس الاستحضار التاريخي، والمستقبلي معًا في سياق دراسة مفاهيمية تستند على مناهج البحث العلمي، سواء بالتحليل والتشخيص، والفكفكة العلاجية، بعيدًا عن القفز على الموروث الضخم من الأزمات التي حكمت المنطقة بأنظمتها ومنظومتها، وفق مفاهيم ترحيل الأزمات أو تسكينها أو طيها تحت مطوية المؤامرة والعداء الخارجي " سهل ممتنع"، وإن كان شيء له وقع حسي ملموس وحقيقي، إلَّا أنه ليس تعبير كمي وكيفي عن حقيقة الأزمة ومسبباتها في ظلّ سياسة العصا الأمنية التي أبدعت في سَوق هذه الجماهير أو الشعوب نحو الكفر الإيماني بالمبادئ الإنسانية.
استوقفتني في مطالعتي السريعة عدة تحليلات، وتصريحات حول المجزرة الأخيرة التي ارتكبتها قوى التطرف في سيناء ضد قوات الجيش المصري، فلم أجد في ثنايا هذه التحليلات والتصريحات ما هو غير تقليدي أو جديد، بل لا زال الأمر عما هو عليه ردود فعل سريعة، تبرير، تصدير الأزمة، استغلال الموقف للانتقام من المعسكر الأخر، تصويب وتوجيه البوصلة الشعبية المصرية بعيدًا عن الحقيقة، وبعيدًا عن الأزمة الحقيقية، وتضليلها في ظل عدم قدرة هذه الجماهير على اكتساب الخبرات من الأحداث السابقة، وعدم سيادة العقلانية في ايجاد أسس وقواعد المشكلة والأزمة لوضع الحلول وصياغتها بمنطقية وموضوعية. وهذا شأن آخر لا يمكن التعويل عليه، بما أن الأزمات هي سر البقاء، وديمومة التضليل، فإن تلاشت وانتهت سيسأل الشعب عن مدخلات أخرى مثل الفقر، العدالة،الحريات، التنمية، حقوق الإنسان، الدولة المؤسساتية، وهي أمور تكشف العورات، وتسقط الأقنعة، وتهدم الأصنام، من هنا فلا بد من تحويل الشعب لحالة اللاوعي والاستنفار الدائم في البحث ماراثون العدو خلف من هو العدو؟ ومن يتربص بالوطن؟ والتفكير في العموم الوطني.... والبعد والابتعاد عن الخصوصية والمواطنة ومتطلباتها، ومدخلاتها الممثلة بأمنه المجتمعي، والمعيشي، وحقوقه الذاتية، وهي أمور ومتطلبات تؤرق رجالات القصور ومشرعي النظام وحراسه، لأنها بمنطقهم يجب أن تكون دومًا خارج نطاق الوعي المجتمعي، والتفكير المنطقي، فهي معيق لعجلة الاستثمار في الشعب، فكلمة " لا" يتبعها بعد ذلك، ماذا أنجزتم؟ ماذا قدمت؟ ماذا حققتكم؟ أين التنمية؟ أين الرفاهية؟ أين حقوقنا؟ وهي أسئلة تعتبر خارج نطاق العقل الاستثماري لنظام الحكم وسيادته، وخارج وعي قادة اللحظة والاستثناء.
لب الأزمة المصرية متشعب يتمحور في ثلاث محاور رئيسية، الأوّل مجتمعي، الثّاني أمني، الثالث سيادي، فالأول يتمحور في تراكمات نظام استمر ثلاثة عقود، وموروث ضخم وهائل من عملية غسيل الدماغ، والاستيلاء على مقومات ومقدرات المجتمع المصري، وتجريده من قيمه المجتمعية، وهتك مكونات نسيجه المجتمعي، مما راكمه من مخلفات وشوائب تحتاج لعدة عقود لترميمها وعلاجها، نظام جَسد في عقوده الثلاث كل انحرافات وتشوهات السقوط والتقادم في أصالة مجتمع منسجم في فسيفسائه المجتمعية، وغرس مفاهيم الآنا والذات، وخلق هوة وفجوة كبيرة بين فئات المجتمع وطبقاته، حتى تحول هذا المجتمع المسالم، لمجتمع تتفشى فيه الجريمة والحقد المجتمعي، وتقديمه للعالم كمجتمع يعاني من الأمراض المجتمعية، وهناك من استغل هذه الحالة لينقض على ما تبقى من موروث حضاري وتاريخي لشعب ومجتمع عريق بنى أعظم الحضارات. أما الجانب الأمني فهو الجانب الأكثر أهمية، حيث أصبح السيف الأمني مسلط على رقاب مؤسسات الدولة والمجتمع معًا، وتحولت أجهزة الأمن لحاكم وجلاد معًا، تنمي قدراتها للجم المواطن والمجتمع، وهدر مقدرات وثروات البلاد في تشكيل وتجنيد كل القدرات لتفكيك البنى المجتمعية، لتسهيل السيطرة عليها، وملاحقة ابداعاتها، فإنهارت ثروة المجتمع الثقافية والفكرية وأصبحت استهلاكية فاسدة، ساهمت في تعزيز روح الاحباط واليأس وضعف الانتماء، أما الجانب السيادي فإنه اختصر كل أدائه ومنجزاته في حدود أمن القصر الرئاسي ورفاهيته، وعائلته وامتداداته العائلة، وبطانة الاستثمار في العباد والبلاد.
بعد ذلك عودة إلى الجانب الموضوعي والرئيسي في تحليلنا هذا، وهو أحداث سيناء بل وما يحدث في مصر حاليًا، بما أن سيناء جزء مما يحدث في مصر، حيث دأبت الحكومات المصرية منذ العهد السابق قبل ثورة يناير 2011، وما بعد ثورة يناير إلى تحويل سيناء لبعبع مفترس للمصريين، كما عَرت اتفاقية كامب ديفيد 1979 أهم وأخطر جزء في الأمن القومي المصري، وجعلت من ظهر مصر ومؤخرتها عارية أمنيًا، وسياسيًل، وعسكريًا، فشكلت سيناء بؤرة تهديد دائمة ومستمرة لمصر وأمنها القومي دون أن تحرك الدولة المصرية مؤسساتها وأجهزتها لحماية ظهرها، فتركت سيناء التي تتمتع بطبيعة جيوسياسية خاصة لحال سبيلها ولقدرها، وكذلك المجتمع السيناوي المتطبع بالبداوة، وهي صفة لها خصوصياتها وأساليبها المختلفة والخاصة. فمنذ عام 1979 لم تستثمر الدولة المصرية في سيناء، ولم تقوم بالتنمية الحقيقية، ولم تقدم أي مظاهر في مجالات التنمية الاقتصادية والبشرية أي جهود تحقق نقلة نوعية في المجتمع السيناوي الذي أصبح يبحث عن ذاته ويواجه ظروفه تحت ضغوط التجاهل من الدولة من جهة، واعتباره جزء خارج نطاق ودائرة التنمية الفعلية الحقيقية، وتحت رحمة " إسرائيل" وأجهزتها الاستخباراتية والأمنية التي أعدت العدة وهيأت المناخ السيناوي فترة احتلالها، وما بعد اتفاقية كامب ديفيد لما يخدم مصالحها وأهدافها، خاصة وهي تدرك أن سيناء جزء حيوي وهام في الدولة المصرية، وفي ظهر الكيان الجنوبي أيضًا، وهو ما تجاهلته الجكومات المصرية سواء عمدًا أم دون عمد، مع ترجيح التعمد هنا كون سيناء خاضعة لاتفاقيات كامب ديفيد ومعاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية، وهي اتفاقية أمنية عسكرية أكثر منها اتفاقية سلام، كما واستغلت أجهزة الأمن المصرية هذه الحالة في إثارة الرأي العام المصري بعد الثورة ضد حكم الأخوان المسلمين والرئيس محمد مرس من جهة، وضد غزة وحكومة حماس من أخرى، ونجحت إلى حد كبير في ذلك، انطلاقًا من الاعتداءات على الجنود المصريين وقوات الأمن المركزي، ما يؤكد أن تجاهل سيناء شيء عمدي وقصدي يخدم الحالة الأمنية المهيمنة والمسيطرة على طبيعة ونوعية النظام القائم حتى بعد ثورة 2011، وأثناء فترة وبعد عزل الرئيس المُنتخب ديمقراطيًا محمد مرسي، وانتخاب الرئيس عبد الفتاح السيسي قائد الجيش المصري عام 2014، وهي احداث تكميلية تعبر عن شخوص وليس مفاهيم ورؤى، بل أن الخطاب لم يتغير بل تم استحداثة في إطار تحريكي يتوافق والمتغيرات المصرية الداخلية.
الجانب الآخر هو الجانب العلاجي الذي انتهجه الجيش المصري في تعزيز الإنقسام بين قوى المجتمع المصري، حيث أن الجيش المصري منذ تأسيسه مثل درع واقي وحامي للمجتمع المصري وسيادته، وساهم مساهمة فاعلة في استقطاب كل فئات وشرائح المجتمع المصري التي أجمعت على هذه المؤسسة، وعمق هذا الاحساس ثورة يناير، إلا أن الجيش المصري لم يحافظ على هذه الصيرورة والكينونة الخاصة له، والحميمية بينه وبين الشعب المصري، بل أحدث انقسام كبير في العمق المجتمعي المصري من خلال تصدره للمشهد في احداث يونيو 2013 ضد جماعة الأخوان المسلمين والرئيس محمد مرسي المُنتخب ديمقراطيًا، وذلك من خلال الحسم العسكري للعملية الديمقراطية، وتقديم جماعة الأخوان المسلمين كجماعة اجرامية ارهابية وملاحقتها، دون الأخذ بعين الاعتبار أن هذه الجماعة تمثل شرائح عريضة في المجتمع المصري، وكان يمكن علاج الأزمة بطرق عديدة ومتنوعة أكثر نجاعة وتجنيب البلاد أزمات لا يمكن السيطرة على زمامها بوقت قصير، كما لا يمكن حلها والتغلب عليها بخلق حالة عداء وكراهية في نسيج المجتمع المصري، وكان يمكن اتباع سياسات أكثر توازن وتعقل لتجنيب البلاد الانهيار والتدهور، وخاصة أن تجربة حزب العدالة والتنمية التركي لا زالت مائلة في حسم الصراع مع المؤسسة العسكرية التركية، والقوى العلمانية الديمقراطية التركية، دون أن تؤثر على الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني، أو مس هيبة الدولة محليًا واقليميًا ودوليًا.
فالأزمة المصرية هي عبارة عن مجموعة أزمات مصطنعة وهادفة، وهناك من يدعم استمرارها وتأجيجها، واشعال فتيلها كلما بدت ملامح هدوء واستقرار، بما أن مصر دولة استراتيجية في المنطقة، وتعتبر أهم مكونات المشروع القائم في المنطقة، لما تمثله مصر من ثقل وأهمية، وبما يؤهلها للعب أدوار استراتيجية هامة، والتصدي للكثير من الخطط والمخططات المنفذة والممررة في المنطقة. وعليه فأي استقرار في مصر يعني استفاقة العقل المصري، وعرقلة العديد من الخطوات. لذلك لا بد من اخضاع مصر لحالة اللااستقرار والتوتر، وصناعة الأزمات الدائمة والمستمرة، وتغييب دورها الإقليمي في الفترة أو المرحلة الحالية على أقل تقدير، وهذا ما يؤكده تقليدية النظام الحالي في معالجة الأزمات، وخاصة العلاقة مع مكونات المجتمع المصري بما فيها جماعة الأخوان المسلمين من جهة والتوتر الشديد الذي صنعه اعلامه ضد هذه الجماعة وشيطنتها وكأنها في سياق دخيل على المجتمع المصري، وليس جزء أصيل منه لا بد من احتوائه، وأيضًا النظر لسيناء كحالة مقيدة في الفهم الأيديولوجي الإنفعالي المأزوم بعقدة الارتباك، والتعامل معها كبؤرة خارجة عن مفاهيم التنمية العلاجية، الوقائية، وثالثًا تصدير الأزمة إلى غزة بما أن حاكمها حركة حماس كجزء من الأخوان المسلمين، وصناعة الكراهية والعداء بين غزة والمجتمع المصري استكمالًا لحالة العداء مع جماعة الأخوان في مصر، بالرغم من أن المفكر والمدبر لا يمكن له تصور بشكل منطقي وعقلاني وموضوعي أن حركة حماس تصل من الجنون للعب في الساحة المصرية، وهي تدرك أن مدخلها للسياسة الإقليمية والدولية هي مصر بحكم العديد من العوامل، وإن كان الجوار الجغرافي عامل مهم، فهناك عوامل أخرى أكثر أهمية، وإن كانت مصر تحاول الزج بالأزمة شكليًا على البعض لنوي المتطرقة في غزة مثل تنظيم جيش الاسلام، فها يؤكد أن ما تطرحه ما هو سوى استغباء للفهم والوعي المجتمعي المصري المغيب، فقوة مثل جيش الإسلام هي قوة أضعف من تحريك قدراتها داخل مصر، وتخضع لقيود وسيطرة حركة حماس، كما أن مثل هذه القوى تدرك أن أي تحرك شاذ منها يضرب مصالح حركة حماس يعني نهايتها في غزة.
أن التصريحات التقليدية التي صدرت من الرئيس المصري ووزير داخليته بعد الهجوم على الجنود في سيناء، هي نفس العقلية والنمطية غير الواقعية، والتي تستهدف تصدير الأزمة واستغفال الوعي المصري، والالتفاف على المسببات والاسباب الحقيقية، ومحاولة لاخفاء حقيقة الأحداث والأزمات، وأجهزة الأمن والأستخبارات المصرية تمتلك مقومات وامكانيات وقدرات كبيرة جدًا في غزة، كما أنها على أعلى تنسيق أمني وسياسي مع حركة حماس في غزة، ويمكن لها أن تتخذ هي وحركة حماس اجراءات وقائية وعلاجية أن كان هناك بالأصل تهديد لأمن مصر من غزة، وهي خراقة مجردة من أي منطق موضوعي وعقلي أو حتى تصوري سوى لدى ماكنة تصوير الأزمات واستغفال الوعي المصري لدى المواطن البسيط إلى انهكته أزماته الشخصية والمجتمعية المواطن الحالم بالعدالة الاقتصادية، والحياتية، والأمنية، المواطن اللاهث للمطالبة بحقوقه الإنسانية الأدمية، واستقراره الشخصي والأسري والمجتمعي، ومحاربة الجريمة والفساد، والمترقب لجني ثمار ثورته، وموارده التنموية.
د0سامي محمد الأخرس
26سبتمبر(أيلول) 2014
Samyakhras_64@hotmailcom