القدس بكل ما تمثله هي درة هذا الوطن

بقلم: عباس الجمعة

كما هو جميل عندما نكتب عن مدينة تحتل بالروح والفؤاد منزلة كبيرة وهي القدس، نسأل هل تستحق قضية القدس أن تولى كل اهتمام ورعاية، ذلك أن للمدينة تفرد عجيب بطابعها الحضاري والتاريخي ما جعلها محط أنظار المؤمنين من الديانات السماوية الثلاث.

لقد مر على مدينة السلام بما تتمتع به من رمزية وقدسية العديد من الحروب والصراعات، فعلى أرض القدس ومن أجلها دارت عليها حروب وانتفاضات عدة، كان أحد فصولها صراع دام من القرن الحادي عشر إلى القرن الثالث عشر الميلادي فيما عرف بالحروب الصليبية، وهي الآن في قلب صراعنا مع كيان الاحتلال الذي استكمل قرنًا من الزمان ولم تظهر بعد فواتح انتهائه

فمنذ عام 1948 م تبنت حكومات الاحتلال السياسة المتعاقبة تهويد القدس بسلسلة إجراءات واعتداءات على أهل المدينة، وعلى الأماكن المقدسة إسلامية ومسيحية، حتى لم تبق حارة او زاوية في القدس الا وتعرضت للحفريات، فاذا اكتشفت آثار إسلامية تلقى الإهمال والضياع وحتى التدمير ولا توثق، وكان أهم الانتهاكات والاعتداءات و أخطرها الشروع في تنفيذ مخططات الحفريات تحت أساسات البلدة القديمة والأماكن المقدسة بذريعة الكشف عن التاريخ اليهودي وهيكل سليمان، ولكن الهدف الحقيقي لهذه الحفريات تصديع هذه المعالم والتسبب بانهيارها.

ان الفكر الصهيوني والايدلوجية الصهيونية منذ تبلورهما تهدف باتجاه واحد هو النفي الكامل للشعب الفلسطيني وترحيله واستبداله باليهود من مختلف أنحاء العالم، وكانت الخطة ترتكز على الاستيلاء على أكبر مساحات ممكنة من الأراضي الفلسطينية. وإجبار السكان الفلسطينيين على مغادرة أراضيهم وبيوتهم بمختلف الطرق والوسائل ، ثم دفع الهجرة اليهودية إلى أرض فلسطين، وهذا النهج العنصري الصهيوني أدى بدوره إلى برنامج عمل يومي ينحو باتجاه إعادة تكوين المدينة وتشكيلها من جديد وإعادة صياغة التركيبة والخريطة السكانية الديموغرافية لها ، حيث تستمر حكومة الاحتلال الى تحقيق وجود يهودي دائم ومباشر في المسجد الاقصى ومحيطه وتحويل الهوية العربية الاسلامية للقدس الي هوية يهودية .

ان تجربة الصمود للشعب الفلسطيني وانجازاته المختلفة أجابت بدون أدنى التباس على عقم عشرين عاماً من المفاوضات بلا معنى وبلا نتائج تذكر ، لهذا نقول ان الوحدة الوطنية الفلسطينية هي معول بناء وتكتيل عناصر القوة الفلسطينية في المواجهة والمقاومة وبما يستعيد التأييد الشعبي العربي للمقاومة وقضية العرب المركزية قضية فلسطين.

من هنا نرى تطور المواجهات الشعبية دفاعا عن القدس والأقصى بوجه العنجهية والجبروت التي تحاول سلبه أرضه وممتلكاته، وسلبه الإرادة الوطنية والإنسانية وكل شروط الحياة ،لكن مع كل ذلك نقول أن بداية الانتفاضة الشعبية حيث يقودها جيل جديد من الشباب ليرسم ملامح مرحلة جديدة يجب أن نحسن استثمارها بما يتناسب وحجم التضجيات ومدى التحديات بما تقتضيه مرحلة ، وخاصة ان الجماهير اصبحت تسبق قيادتها وتتقدم الصفوف الأمامية بالمواجهة مع الاحتلال والاستيطان بمواجهة ما يتعرض له المسجد الاقصى والقدس من تهويد واستيطان ، وتدفع أثمان من الشهداء و الجرحى والاسرى في المواجهة الحاصلة تستدعي من الجميع تصويب المسار واستعادة البوصلة، واستعادة الإرادة الجامعة، وإقصاء من تآكل على هامش الزمن لاستحضار روح وإرادة انسانية وسياسية حية ودماء جديدة.

لذلك نقول للعالم اجمع ان القدس جوهر الوجود الفلسطيني والعربي والإنساني بما تحمله من قداسة وجملة أبعاد حضارية وثقافية وإنسانية، وهي جوهر الصراع ومفتاح الحرب والسلام في المنطقة وهي التحدي الكبير أمام الأمة العربية والإسلامية والعالم أجمع.

ان مواجهة ما تتعرض له مدينة القدس من محاولات صهيونية حثيثة ومتواصلة لا تنقطع لطمس هويتها العربية والإسلامية واقتطاعها من وجودها الفلسطيني العربي وصبغها بالصبغة اليهودية يصبح من الواجب على جميع القوى والشخصيات وبخاصة العلماء ،وخاصة ممن لهم باع طويل في تخصص تاريخ القدس قديماً وحديثاً والتراث الإسلامي، وفي مختلف المجالات وذلك للعمل الجاد والبحث العلمي المنظم المتواصل المتخصص في شكل دراسات جادة تعزز الوعي بعروبة القدس وإسلاميتها وتراثها، وحقنا الراسخ فيها في الحفاظ عليها والدفاع عنها وجعلها منارة ومركزاً حضارياً ودينياً وسياسياً يتناسب مع مكانتها.

ان محاربة الاحتلال والاستيطان والافكار الصهيونية تتطلب من كافة الفصائل والقوى وحركات التحرر العربية والعالمية والجامعات الفلسطينية والعربية التحرك للحفاظ على تراث القدس الديني والأدبي والتاريخي والحضاري والسياسي والجهادي والفكري والعلمي، لأن ذلك التراث يستحق أن يحظى بعناية الجميع وأن يبقى حاضراً في عقولنا وأمام أجيالنا، وأن يكون أساسا من أسس المناهج التربوية والدراسات في الجامعات والمعاهد والمدارس لربط الإنسان الفلسطيني والعربي والمسلم بتراثه ودينه وحضارته عبر التاريخ، وفي هذا المجال فإنه من الضرورة جمع كل الدراسات حول القدس في مختلف التخصصات لتشكيل مادة علمية وتراثية واسعة تصبح ملكاً للجميع وتسهم في التعريف بالقدس والحفاظ عليها وعلى تراثها الحضاري والثقافي والإنساني.

ان أهمية القدس وسمو مكانتها في وجدان الإنسان الفلسطيني والعربي تتطلب وقفة عربية واسلامية واممية امام ما يجري في القدس حيث تستغل حكومة الاحتلال العنصرية الأوضاع الفلسطينية والإقليمية والدولية في رسم خريطة جديدة للضفة الفلسطينية، من خلال جملة المشاريع الاستيطانية التي أقرتها أخيراً لتحقيق هذا الهدف، وسوف نجد أنفسنا بعد عام من الآن

أمام واقع جديد في الضفة الفلسطينية ، حيث تسعى حكومة الاحتلال إلى ضم أجزاء واسعة من الضفة وإبقاء تجمعات متناثرة، ودفع قطاع غزة إلى الانعزال جنوباً بعيداً عن الضفة.

في الانتفاضة الأولى ، كانت القدس عاصمة القرار الوطني، وهي التي تصدّرت المواجهات الشعبية مع قوات الاحتلال، وهي التي كانت تطبق ما تطلبه القيادة الوطنية الموحّدة، فالتزمت المحال التجارية بالإضراب طوال سنوات الانتفاضة، رغم محاولات الاحتلال قمع الإرادة الفلسطينية من خلال تحطيم أبواب المحال التجارية، إلاّ أن ذلك لم يمنع أو يحدّ من تصاعد الانتفاضة وانتشارها في كل أحياء المدينة وعلى رأسها البلدة القديمة، بحيث إن الوجود اليهودي أو الاستيطاني فقد بشكل شبه تام في تلك الفترة، ولم يبق في القدس العربية إلاّ مظاهر العسكرة الاحتلالية الصهيونية.

وعند اقتحام الارهابي شارون المسجد الأقصى في العام 2000، كان المقدسيون في المقدمة، ومن القدس انطلقت شرارة الانتفاضة الثانية،التجربة الأخيرة في مسلسل القتل التهويدي هي إقامة جدار الفصل العنصري، ومحاولة فصل أكثر من نصف المقدسيين عن البلدة القديمة والأحياء المجاورة لها وتكثيف سياسة سحب الهُويّات المقدسية، ووقف البناء بشكل شبه تام، والتضييق بكافة السبل، في محاولة لخلق مفهوم جديد من الهدوء القائم على القوّة، إلاّ أن المقدسيين عادوا ليؤكدوا من جديد أنهم أبناء الوطن وقلبه النابض، فالهبّة الجماهيرية أكدت بما لا يدع مجالاً للشك فشل سياسات التهويد والأسرلة التي استخدم فيها الاحتلال أدوات كثيرة أثبتت في النهاية فشلها.

وامام ما يجري من هجمة امبريالية واستعمارية وارهابية تستهدف المنطقة وخصوصا في الدول العربية مصر وسوريا ولبنان والعراق وليبيا واليمن ، استغلت حكومة الاحتلال انشغال الدول والشعوب العربية بالفتنة الطائفية والمذهبية التي خططت لها الادارة الامريكية وحلفائها ، ونفذها شذاذ آفاق وجهلة من قوى ارهابية خضعوا لغسيل دماغ متقن وقادة متواطئون لا اعتقد انهم يجهلون اتجاه بوصلة الصراع نحو العدو الغاصب، فيحولونها نحو سوريا مرة، ونحو العراق أخرى، ونحو لبنان ومصر وليبيا واليمن ، وتدعم كل هؤلاء دول البترودولار التي

جندت كل امكاناتها المادية واللوجستية والعسكرية والاعلامية للجماعات التكفيرية التي عمّدت اقوالها بالدم والذبح عامدة متعمدة حتى تبقى عالقة في ذاكرة الضحايا، ممن وقعوا ضحية الارهاب الاعمى القادم من وراء الحدود، وهو أخطر داء يمكن أن يصيب الأمة، ويعزلها عن قضاياها المصيرية وعلى رأسها قضية فلسطين ، ممـا يدفع الكيان الصهيوني والمتطرفين اليهود للإقدام على مخططاتهم الإجرامية لهدم الأقصـى والاستفراد بالقدس وأهلها لتنفيذ اخطر مشروع تهويدي للمدينة وتصفية الوجود الفلسطيني في المدينة المقدسة ، لذلك لابد من تحرك عربي واسلامي سريع لحماية القدس والمقدسات الإسلامية والعربية بالمدينة التاريخية وعلى رأسها المسجد الأقصى الذي بات مهددا بدرجة كبيرة جدا تزداد يوم بعد يوم.

ان ما يقوم به شيوخ الفتنة الذين مارسوا كل أشكال التحريض الطائفي والشحن المذهبي لاستباحة الدم العربي ، لم نسمع أنهم حرضوا الشباب العربي للدفاع عن للاقصى والقدس ، بل هم مبسوطين ومرتاحين لما يجري من محرقة لا تميز بين طفل او امرأة أو شيخ كبير او حتى ضرب الجيوش العربية الذي تقوم بها القوى الارهابية التي جلبتهم الادارة الامريكية من الداغستان والشيشان ومغارات تورا بورا في افغانستان ليذبحوا أهل الأوطان، ويتركوا دولة العدوان، في محاولة مكشوفة لإيجاد قضية ينشغل بها العالم بدلاً عن قضية فلسطين.

إن كل ما قيل وتم سابقا من لجان كونت في القمم العربية والاسلامية لا يرتقي لحالة التهديد والدعم المالي الصهيوني لتهويد المدينة، فما وصل القدس لا يساوي إعلان فني لمطرب أو رجل لكرة القدم أو غيره من أنشطة ترفيهية تمارسها بعض الدول ذات الطاقة المالية، فالقدس تحتاج إلى أكثر من ذلك لدعمها، ليس عبر الخطاب بل بدعم مادي فعال مع حضور عربي وإسلامي وممارسة ضغط على مراكز القرار المؤثر في العالم ودعم أهالي القدس ودعم صمود الشعب الذي يواجه بصدوره العارية بكل قـوة وشجاعة وصلابة ويرابطوا داخل المسجد الاقصى ليلا نهـارا دفاعا عنه وعن العرب والمسلمين جميعا بمواجهة الاحتلال وقطعان مستوطنية، لأن جبين القدس اعتاد ان يكون اكليل نصر فالنصر يزهر على جبينها.

هبّات القدس الجماهيرية لم تتوقف بالمطلق، وكانت دائماً كالجمر تحت الرماد تشتعل ناراً ثم تعود لتهدأ دون أن تنطفئ وهذا ما يقوم به شباب ونساء ورجال سلوان وشعفاط والعيساوية ووادي الجوزوبيت حنينا وحي الجراح ، او في المدينة القديمة ، رغم ما تمارسه سلطات الاحتلال بحق العائلات المقدسية يشكل عملية تطهير عرقي للوجود الفلسطيني في القدس. وما يفرض على العائلات المقدسية من ضرائب جائرة تهدف إلى ترحيل سكان القدس المحتلة، فهذه الضرائب ليس لها أي علاقة بالقانون، وإنما تأخد أبعاداً سياسية بحتة، ترمي في نهاية المطاف إلى زعزعة الوجود العربي الفلسطيني في القدس، وبالتالي بسط السيطرة الإسرائيلية على كامل المدينة.

الشعب الفلسطيني لن يتنازل عن حقوقه في إقامة دولته المستقلة ، ولن يتخلى عن القدس عاصمة لها، ومحاولات الاحتلال فرض أمر واقع على المدينة المحتلة محكوم عليها بالفشل، بسبب الإصرار الفلسطيني التي تسنده الحقوق التاريخية والقانونية إلى جانب الشرعية الدولية.

ختاما : وامام خطورة ما يجري نقول علينا التمسك بالسيادة الكاملة على القدس بجوامعها وكنائسها وأرضها، وهو موقف يجب ان يتمسك به الجميع ، لاننا نعلم ان المشروع الصهيوني بالنسبة للقدس واللاجئين وحق العودة له أهداف ومطامع يصعب قبولها أو التسليم بها من قبل اي طرف الفلسطيني يكون قد وقع في المحظور، فالتفاوض على الحل النهائي شيء يختلف جوهرياً في قيمته ومخاطره ومستقبله عن المرحلة الانتقالية، فالوطن لا يعوض، والقدس بكل ما تمثله هي درة هذا الوطن وما حوله من محيط عربي وإسلامي ، فهل يمكن تعويضها.

 

كاتب سياسي