لم يعد الصراع في منطقة الشرق الأوسط يقتصر على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فدول المنطقة تعج بصراعات طائفية وحزبية وقبلية، وحجم الدماء التي اريقت في هذه الصراعات الثانوية لا ينبيء بسهولة مداواة جراحها، والمرشح الأقرب إلى منطق الأحداث أن يتوسع الصراع وتتجذر فصوله في الثقافة المجتمعية، بدأ مشهد الصراع الطائفي في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، أعقب ذلك الربيع العربي وما أفرزه من فوضى ما لبثت أن تحولت إلى صراعات تحمل الطابع الطائفي تارة والطابع الحزبي والقبلي تارة أخرى، وهذه الصراعات المتعددة الأشكال والألوان ترفد بالنهاية نهر الصراع الطائفي في المنطقة، وستعمل على تشكيل مساره برغبتها ومعرفتها أو بجهل منها ورغماً عن أنفها.
المهم في خضم هذه الصراعات يخطيء من يعتقد أن إهتمام المحيط العربي بالقضية الفلسطينية ما زال على حاله، فلا أعتقد أن القيادات في الدول العربية الملتهبة داخلياً تفكر ولو للحظة عابرة في القضية الفلسطينية وما آلت إليه، وعلى أحسن الأحوال ما يمكن لنا أن ننتظره منها في هذه الآونة أن يتضمن بيان وزارة الخارجية لديها تعريجاً من قريب أو بعيد حول إدانة هنا أو هناك لممارسات حكومة الاحتلال، وإن كنا نطمح في مواقف جادة من قبلها فيما يتعلق بالصرع الفلسطيني الإسرائيلي فنحن نهرول وراء سراب سيعمل على انهاك قوانا، والأجدر بنا أن نلامس المنطق الذي يقول بأن الصراعات الداخلية في الدول العربية دفعت قياداتها ومجتمعاتها معها للتفكير في الشأن الداخلي المتعلق بها، وهي مغموسة من رأسها حتى أخمص قدميها فيه، ولا وقت لديها للنظر خارج تلك الدائرة.
الصراعات الداخلية في المحيط لم تعمل على إعادة ترتيب أولويات المنطقة وإهتماماتها بل عملت كذلك على تعديل أولويات المواطن ذاته، لم تعد العناوين الكبيرة التي شغلت العالم العربي على مدار عقود عدة صالحة للإستخدام، حيث تم الاستعاضة عنها بعناوين صغيرة تلامس الهم الحياتي للمواطن في حيزه الجغرافي، وإن كان الحراك الشعبي في السنوات السابقة في بعض الدول العربية حمل شعارات العيش والكرامة والحرية، فالمؤكد أنها تاهت اليوم في دهاليز غياب الأمن والأمان، حيث أن اولوية المواطن العربي اليوم تتعلق بتوفير الأمن والأمان له ولأسرته وهي تتقدم بمسافات ما سواها.
طبيعي في ظل هذه البيئة أن تتمدد طولاً وعرضاً دكتاتورية الحكم، ولن يجد اللاهثون خلف حرية الرأي آذاناً صاغية ليس فقط من الأنظمة الحاكمة بل من المجتمع ذاته، المجتمع الذي يعاني من غياب الأمن ولا يشعر بالأمان في وطنه لن يضيره استبدادية الحكم إن رأى فيها ما يعيد إليه الأمان الذي فقده، فمن غير المعقول إغراء المجتمعات بالشيكولاتا إن هي عاجزة عن تذوق الخبز، وكذلك من غير المنطقي أن نعول على محيطنا العربي المثخن بالجراح أن يداوي جراحنا، فنحن الأقدر على معالجتها، ونحن دون سوانا من يملك مفاتيح إنهاء الانقسام وتداعياته، وبمقدورنا أن نؤسس لشراكة حقيقية ضمن برنامج متفق عليه سياسياً ونضالياً وخدماتياً، وما دون ذلك سنجد دوامة الصراعات الداخلية المحيطة بنا تقذفنا إلى رحاها من حيث لا نعلم.