هي أرملة في الأربعينات من العمر ،راحت تتذكر أوقات عصيبة ومريرة مرت بها ..عراكات قاسية ومشاكل عنيفة تعرضت لها مع أهل زوجها والذي توفي إثر حادث مؤسف ..تذكرت يوم أن عرضوا عليها بأن تتزوج من أحد إخوان الزوج ،حتى يتسنّى لهم التردد على البيت وحفاظا ورعاية للأولاد الصغار، هو تقليد كثيرا ما يتكرر في أوساط المجتمعات الفلسطينية ..وقتها كانت شابة صغيرة وجميلة في مقتبل العمر .. وصعب أن تعيش بقية حياتها على مجرد ذكرى زواج لم يدم طويلا..خاصة وان أهلها لن يرضوا بأن تعيش وحدها بعد أشهر العدة ..فإما أن تقبل بالزواج الجديد ..وإما أن تغادر أولادها فتتركهم وتنتقل لبيت أهلها ..هكذا تحولت حياتها من سعادة عارمة وراحة البال والاستقرار إلى جحيم موحش ..حيث وقعت بين مطرقة أهل زوجها وبين سنديان أهلها ..لكنها بكل إصرار وبعزيمة رفضت كلا العرضين وفضلت أن تكرس حياتها لتربية أولادها ..وبينما كانت تجلس في ساحة البيت ترقب أولادها الذين كانوا يلهون حولها ويمرحون ..شردت بخيالها الواسع والعميق فتخيلت لو أن لها بيتا صغيرا أو كوخا بسيطا يتسع لعائلتها ُيطل على شاطيء نهر جار ..تطمئن على سلامة أبناءها الذين ضحت بحياتها من أجلهم .. بعيدا عن الحروب والويلات التي و ما أن تمر سنوات قليلة وإلا وتتجدد تلك الحروب وبعيدا عن النزاعات الفصائلية المنغصة ، والتي انبثقت من أرحامها الانقسامات ..بعدما أصابت جسد المجتمع وفتت كيانه وتماسكه ..هي تريد حياة مستقرة بعيدة عن التجازبات السياسية التي يرتهن الإعمار بتوحدها ..وبعيدة عن المعابر المغلقة وضيق العيش ..وفجأة وبدون سابق إنذار فلا هبوب لرياحٍ عاصفة ولا رعود مزمجرة أو وميضا لبرق ٍ يلمع في الأجواء فينذر أو يبشر بمجيء المطر..كما جرت العادة وإلا وقد هطلت الأمطار بغزارة ..جرت على أولادها بعدما دفعتها غريزة الأمومة لتحتضنهم بكل رقة وحنان .. وأدخلتهم بسرعة إلى داخل بيتها القرميدي المشقوق الألواح ،والمهدمة جدرانه بصورة جزئية ..وما هي إلا لحظات قليلة وإلا وقد غرقت الغرف والفرشات والأغطية بعدما تسللت بكل سهولة مياه الأمطار من بين فتحات تلك الشقوق الواسعة ..لم يعد هناك فرقا واضحا بين حنايا البيت وبين الساحة الغرقى بالمياه وكأنما هي جزيرة ممتدة ومتلاصقة ..صحيح أنها كانت تحب المطر ،وتعشق رائحة التراب المبتل بحباته لكنها هذه المرة ..انزعجت كما الآلاف من الذين شردوا من ديارهم التي ضاعت ملامحها بفعل القصف الصهيوني في الحرب الأخيرة على غزة ،أولئك الذين لا يزالون يسكنون الخيام أو الكرافانات أملا أن تتحول الأطلال ..أطلال ديارهم إلى عمران من جديد ..وقفت على أحد جوانب غرفتها محتضنة أولادها الصغار الذين اتسخت ملابسهم بالمياه الممزوجة بالأتربة ،تسمرت في مكانها ، لم تستطع أن تفعل شيئا ..لكنها لما لمحت أمامها إحدى صور زوجها تجرفها المياه ..جرت على عجالة وأمسكت بطرفها الخلفي ..ضمت الصورة إلى صدرها بقوة قد شحنت وجدانها ..هرعت وأحضرت جردلا كبيرا وراحت تنزح المياه من داخل الغرف بكل عنفوان وطموح .. سقطت شعرة بيضاء حيث تدلت خلسة وسط المياه لكنها لم تأبه بذلك أبدا ..!!