القدس الموحدة ليست موحدة

بقلم: غازي السعدي

من حق الفلسطينيين أن يغردوا فرحين عبر شبكات التواصل الاجتماعي الفلسطينية على محاولة اغتيال الناشط المتطرف الحاخام "يهودا غليك"، ولا نعلم لماذا يستغرب الاحتلال هذه الفرحة الفلسطينية، فهذا الحاخام أحد المتطرفين البارزين الذين يدنسون المسجد الأقصى يومياً، لذلك لا غرابة من الفرحة التي غمرت الفلسطينيين، بمحاولة تصفيته أثناء اجتماع للمتطرفين في مركز التراث الذي يحمل اسم "مناحيم بيغن" في القدس للتداول في خطوات تهويد المسجد الأقصى، على طريقة مرحلة بعد أخرى، فالحاخام الذي أصيب بطلقات نارية يرقد في المستشفى وحالته في غاية الخطورة، وهو من أبرز المدافعين عن ما يسمى "جبل الهيكل" أي المسجد الأقصى، ويسعى للسيطرة عليه، وتغيير الوضع القائم، وتقسيمه بين المسلمين واليهود، كما فعلوا في المسجد الإبراهيمي في الخليل، إنه "غليك" الإرهابي بكل معنى الكلمة، والذي يبلغ من العمر (48) عاماً، ويسكن في مستوطنة "عنتئيل" المقامة على أراضي الفلسطينيين في الخليل، ويقود العمليات تحت مزاعم حق اليهود في الصلاة بالأقصى والصعود إلى جبل "الهيكل"، ومنذ خمس سنوات عين رئيساً لمؤسسة "تراث جبل الهيكل"، وهو عضو في حزب الليكود، واللجنة المركزية لهذا الحزب، وكان من مؤسسي منتدى "قيادة المستوطنين"، في الضفة الغربية، وسبق أن تقلد مناصب عليا، منها العمل لعشر سنوات في وزارة الاستيعاب والهجرة، وعمل متحدثاً باسم الوزير السابق "يولي أدلشتاين"، ومدير العلاقات لمركز "الهوية اليهودية"، ومدير مكتب عسقلان الإقليمي، حتى أعلن استقالته من هذا المنصب عام (2005) بسبب فك الارتباط الإسرائيلي عن قطاع غزة، ومن نشاطاته تنظيم مسيرات بشكل دائم لاقتحام الأقصى، ونشاطات متطرفة وعنصرية أخرى، لذلك فإن اختياره للتصفية لم يكن عبثاً، علماً أنه يحمل الجنسية الأميركية.
إن الاحتجاجات والانتفاضة المحدودة بالقدس لم تأت من فراغ، فالاحتلال لا يسمح، بل يقمع الاحتجاجات السلمية، على ما يتعرض له المسجد الأقصى من اقتحامات المستوطنين، واستمرار البناء الاستيطاني بآلاف الوحدات السكنية بالقدس والضفة الغربية، وانهيار العملية السلمية، وعدم وجود آفاق سياسية للحل، والدعوات المتزايدة لتقسيم الصلاة في الأقصى، ووجود المستوطنين في قلب مدينة القدس، وعمليات دفع الثمن الإرهابية، وإهمال الحكومة والبلدية لأوضاع الأحياء العربية، والاستمرار بتشريع القوانين العنصرية والفاشية لتطويق الفلسطينيين، ويكذب "نتنياهو" حين يعلن بأن إسرائيل تحترم حقوق جميع الطوائف وتسمح لها القيام بطقوسها الدينية، بينما تحدد السلطات الإسرائيلية أعمار المسموح لهم بالصلاة، فأين هي حرية العبادة؟ حتى أن الاحتلال، ولأول مرة في التاريخ يغلق المسجد الأقصى أمام المصلين الخميس الماضي 30-10-2014، ما اعتبره الرئيس الفلسطيني "محمود عباس" بمثابة إعلان حرب، وتهديد الأردن على لسان الناطق الرسمي الوزير محمد المومني أن استمرار إغلاق المسجد والممارسات الأخرى قد تؤدي إلى اتخاذ الأردن إجراءات ضد إسرائيل، قد تصل إلى إلغاء اتفاق السلام معها، مما أجبر إسرائيل في اليوم التالي على إلغاء إغلاق الأقصى والسماح بالصلاة للمسلمين لكن مع تحديد أعمار المصلين، كما قام رئيس الوزراء الفلسطيني رامي الحمد الله بزيارة الأقصى لإثبات حق الفلسطينيين على المسجد.
"نتنياهو" كعادته يحمّل التوتر القائم ويتهم الرئيس الفلسطيني بالتحريض على قتل اليهود، بينما أن "نتنياهو" وحكومته هم الذين يتحملون المسؤولية عما يحدث، بل وهم الذين يصنعون التحريض بإصرارهم على السماح للمستوطنين باقتحام الأقصى تحت حماية الأمن الإسرائيلي، ويكذب بل ويخدع حين يقول بأن إسرائيل لا تنوي تغيير الوضع الراهن في المسجد الأقصى، ولو كانوا صادقين لما كانوا يحاولون الاستيلاء على الأقصى، وفقاً لسياسة المراحل، فسيطروا على المفاتيح، وعلى الحراسة الأمنية، وعلى من يدخل ومن يخرج، حتى على أعمال الصيانة، وأن الكنيست تبحث وتريد إصدار تشريعات لتقسيم الصلاة في الأقصى، وهناك مشروع قانون آخر في الكنيست لإلغاء وجود مكبرات لصوت الآذان من المساجد، كما أن اقتحام المستوطنين للمنازل العربية في سلوان تحت جنح الظلام، لدرجة أن وزير الإسكان، وهو وزير المستوطنين "أوري أرئيل"، يعتزم الانتقال للسكن في هذه المنازل، والاستمرار في بناء آلاف الوحدات الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية، فهذه السياسة، وهذه الاستفزازات التي يصنعونها، هي التي تستفز الفلسطينيين للمواجهة، لاستعادة حقوقهم، ويخلقون الحجج باتهام الرئيس الفلسطيني وغيره بالتحريض، بينما أعمالهم وسياستهم هي التحريض بعينه، فالمقدسيون يدحضون مقولة القدس الموحدة عاصمة إسرائيل الأزلية، بمقاومتهم الشعبية للانتهاكات الإسرائيلية، فإعلان "نتنياهو" وتراجعه عن تغيير الوضع القائم في الأقصى منذ عام 1967، هي للخداع، والحقيقة أن إسرائيل تعتبر الأقصى تحت السيادة الإسرائيلية، وتسري عليه القوانين الإسرائيلية، التي تمتنع عن تفعيلها في الوقت الحاضر، نظراً للرعاية الأردنية على المسجد، التي تعتبرها إسرائيل رعاية سياسية لا أكثر، وإذا كانت حرية الصلاة والعبادة للمسلمين متاحة، فلماذا يحددون أعمار المصلين؟ وكيف يفسرون أن عدد المصلين في الجمعة الأخيرة بلغ أربعة آلاف مصلي فقط، بينما كان العدد يصل إلى عشرات الألوف في الماضي، وأن منع المصلين من دخول الأقصى، ينفي أقوال "نتنياهو" عن حرية العبادة والصلاة، مما اضطر آلاف المصلين للصلاة في الساحات المحاذية للأقصى.
إن الوضع السياسي الذي يميل لمناصرة إقامة الدولة الفلسطينية، والتحول الأوروبي بهذا الاتجاه، الذي مل الخداع والمماطلة الإسرائيلية التفاوضية لإنهاء الاحتلال، يدل أنه لا تزال لدى الفلسطينيين أوراق عديدة، إضافة إلى المشروع الفلسطيني للاعتراف بالدولة الفلسطينية، والانضمام إلى هيئات الأمم المتحدة المختلفة، بما فيها اتفاقية روما، ومحكمة جرائم الحرب، كما أن وقف التنسيق الأمني الفلسطيني-الإسرائيلي، والتهديد بتسيلم المفاتيح وحل السلطة، سيكون لهما تأثير كبير على إسرائيل، والمجتمع الدولي، فإسرائيل تتحرك وتبني سياستها وفق أجندة المستوطنين وأولوياتهم، وأن الاتفاق الأخير، الذي توصل إليه "نتنياهو" مع ممثلي المستوطنين بتسريع وتيرة الاستيطان، يهدف لإلغاء مشروع إقامة الدولة الفلسطينية يندرج في المحافظة على الائتلاف الحكومي، وعدم سقوطه واستمرار جلوس "نتنياهو" على كرسي الحكم، فالوزير "بينت"، رئيس حزب البيت اليهودي، قالها صراحة، أن استمرار الاستيطان: هو الضمان لاستمرار الائتلاف الوزاري.
إن التوتر القائم بين إسرائيل والولايات المتحدة، وتنديدها الشديد بسياسة إسرائيل الاستيطانية، إضافة إلى التهديد الأوروبي لمقاطعة إسرائيل، مع أن إسرائيل تضرب بها عرض الحائط، إلا أن علينا استثمارها، فإسرائيل تتحدي الولايات المتحدة والعالم، بمخططاتها الاستيطانية، فوزير الجيش "موشيه يعالون"، لدى زيارته الولايات المتحدة قبل أسبوع، رفض ثلاثة من أقطاب الإدارة الأميركية الاجتماع به وهم: نائب الرئيس "بايدن" ووزير الخارجية "جون كيري"، ومستشارة الأمن القومي "رايس"، تعبيراً عن عدم الرضا من سياسة إسرائيل، وأن البيت الأبيض اتهم "نتنياهو" بالجبن والخداع والانغلاق ووصفوه بالبائس، وأن همه الوحيد البقاء في الحكم، وأنه لا يملك الشجاعة للتوصل إلى سلام مع الفلسطينيين، فالعلاقات الأميركية-الإسرائيلية، هي الأسوأ في تاريخها، ويرد "نتنياهو": يهاجمونني في إدارة "أوباما" لأنني أدافع عن مصالح إسرائيل وأمنها"، و"نتنياهو" يعتبر السلام، تهديداً لإسرائيل، ويتعهد بعدم تقديم أية تنازلات للفلسطينيين، في أعقاب الهجوم القاسي عليه من الولايات المتحدة-كما يدعي- لرفضه التوصل إلى تسوية مع الفلسطينيين، والاستمرار في البناء الاستيطاني، ويرد عليه الأميركيون، بأن استمرار سياسة "نتنياهو" الاستيطانية ستبعد عنه حتى الأقرب من حلفائه.
"نتنياهو" الذي يزعم بأن القدس لليهود منذ ثلاثة آلاف سنة، وستبقى لليهود، عاد ليكرر شروطه للسلام: تركيزه على الوضع الأمني لإسرائيل الذي لا نهاية له، اعتراف الفلسطينيين بيهودية الدولة، دولة فلسطينية منزوعة السلاح، بقاء إسرائيل في الضفة الغربية، ترتيبات أمنية مشددة وبعيدة المدى، حق إسرائيل في استمرار البناء في القدس، والأحياء اليهودية والكتل الاستيطانية، ويتهم الفلسطينيين أنهم يريدون دولة دون تسوية سلمية حقيقية، فهذه الشروط، وهذا الكذب، هو الموقف الحقيقي بأن إسرائيل لا تريد تحقيق السلام مع الفلسطينيين.
العنصرية الإسرائيلية، بل والفاشية والتي وضعت نفسها في موضع "الأبرتهايد"، بانت في أقوال الوزير "نفتالي بينت" الذي يعتبر أن التطرف الذي يسود المجتمع الإسرائيلي سيوصله إلى هرم الحكم، فإنه يعتبر أن قتل الفلسطينيين حياة للإسرائيليين، وقال في مقابلة مع الإذاعة الإسرائيلية بتاريخ "1-9-2014"، عندما نقتل الفلسطينيين نجلب الحياة للإسرائيليين، وعندما يهدمون نحن نبني، وأن قرار الحكومة بمواصلة البناء، هو الرد على الإرهاب الفلسطيني، على حد قوله، ويتهم العالم بأنه لا يحب قيام دولة إسرائيل، وأن إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية، هي يوم غفران عندنا (أي ما أصاب إسرائيل في حرب تشرين 1973) محذراً من إقامة دولة فلسطينية، التي ستجلب تنظيم "داعش" إلى حدود إسرائيل، وأن موضوع الدولة الفلسطينية أصبح من خلفنا -على حد تعبيره.
إسرائيل التي تحصل على ثلاثة مليارات دولار سنوياً مساعدات أميركية، إضافة إلى مساعدات مالية وعسكرية أخرى، وموازنات للقبة الحديدية، وسرب آخر من أحدث الطائرات الحربية في العالم من نوع الشبح (F35)، حتى أن أحد السياسيين المعارضين يقول بأن إسرائيل لا تستطيع القيام بالحرب دون الدعم الأميركي، وبدلاً من أن يقولوا لها شكراً، فهم لا يقدرون كل هذه المساعدات الأميركية، فإذا وصلت العلاقات الأميركية-الإسرائيلية إلى الحضيض، ويقولون لـ "نتنياهو" لقد مللنا منكم، فهل يعاقبون إسرائيل بعدم اللجوء إلى حق "الفيتو" على الأقل لدى طرح الفلسطينيين على مجلس الأمن مشروعهم بإنهاء الاحتلال، وإقامة الدولة خلال ثلاث سنوات؟ ولماذا لا يلجأ اوباما إلى "الفيتو" في الوقت الذي لا يتعرض إلى ضغوط عربية حقيقية، ويتعرض إلى تحدي إسرائيل، ولا يستطيع مواجهتها في ظل الحماية الإسرائيلية من الكونغرس الأميركي واللوبيات الأميركية والصهيونية.
وللتذكير فإن منفذ محاولة اغتيال المتطرف "غليك" هو معتز حجازي، الذي داهم الاحتلال منزله في سلوان وقتله أمام عائلته، فرحم الله هذا المقاوم البطل.