في ظروف عصيبة تأتي الذكرى العاشرة لاستشهاد قائد مسيرة النضال الوطني الفلسطيني الرئيس الشهيد الرمز ياسر عرفات ، حيث تتكالب المؤامرات على القضية الفلسطينية في ظل تحولات فظيعة وخطيرة وسريعة تعاكس كل ما عمل عليه الرئيس ابو عمار وأعطاه حياته وكفاحه، غاب عن ساحة النضال، غاب عن الدنيا وهو شاغلها، غاب عن فلسطين التي أحبها وأحبته ولم زالت المسيرة مستمرة نحوها لم تتوقف ، وما زال شلال الدم الفلسطيني يتدفق على أرضها وأوديتها وهضابها وقراها ومدنها، وما زال الشعب الفلسطيني بمقاومته يقاوم ويعاند إملاءات القوة والبطش والجبروت الاميركي والصهيوني.
رحل الشهيد الرمز قبل عشرة سنوات ،ونحن اليوم نفتقد مناضلا مثابرا، وقائدا وسياسيا ورمزا ورئيسا للشعب الفلسطيني كرس شبابه وعمره كله في النضال ومقاومة الاحتلال الصهيوني وفي خدمة قضايا وطنه وشعبه، نفتقد قائدا كان يشكل ركنا حيا من اركان الرواية الفلسطينية بطبعتها المعاصرة.
إن تاريخ الرجل بنضاله يندغم بتاريخ القضية، كما اندغم تاريخ المجاهد القسام والحسيني وابو العباس وابو جهاد وجورج حبش وابو علي مصطفى وأحمد ياسين وسمير غوشه وفتحي الشقاقي وطلعت يعقوب وابو احمد حلب وسليمان النجاب وابو عدنان قيسى وكل قيادات الشعب الفلسطيني التي رحلت في صفحات التاريخ الفلسطيني. اندغم تاريخه النضالي بفلسطين ليعطيها سفرا مضافا، وصفحات جديدة، تحكي الرواية، لقد شكل بنضاله ورمزيته فصلا كاملا من التغريبة الفلسطينية طيلة قيادته لمسيرة النضال الوطني.
ونحن نقف امام ذكرى الرئيس الخالد ابو عمار نؤكد على العلاقة التاريخية التي ربطت الرئيس الشهيد مع الدولة اللبنانية وكافة المرجعيات السياسية والروحية ومع الشعب اللبناني الشقيق ومع كافة القوى الوطنية اللبنانية ، حيث قدم لبنان اغلى التضحيات في سبيل القضية الفلسطينية من خلال وقوفه الى الشعب الفلسطيني وثورته المعاصرة ، هذا التآلف والتكاتف والانسجام والترابط وانخراط عدد كبير من ابناء الشعب اللبناني في الثورة الفلسطينية حيث امتزج الدم الفلسطيني واللبناني من خلال العمليات البطولية بمواجهة العدو الصهيوني على ارض فلسطين وجنوب لبنان او في الصمود الاسطوري في بيروت العربية بمواجهة غزو لبنان عام 1982 ، حيث بات بفعل النضال والتضحية ودم الشهادة رمزا وعنوانا لتعميق هذه العلاقات، وشكلت كوفية الرئيس الرمز الشهيد الخالد ياسر عرفات جسر الوحدة عندما تشابكت ايادي القادة والمناضلين الفلسطينين واللبنانيين فبكت بيروت ساعة الرحيل ولكن كان التوجه نحو فلسطين حتى الاستشهاد.
كان الرحيل كبيرا ، وكانت الأسطورة أكبر ، أسطورة العشق الأزلي لأبناء فلسطين الذين يتعربشون أسوار المجد كفراشات ملونة ، يشرعون صدرهم للرصاص ، يختلطون بالتراب ، ليس لأنهم يكرهون الفرح ونبض الحياة ، بل لأنهم يدركون محاكمة الأم الرحيمة والحنونة القاسية التي لا تسمح بإهانة تراثها المقاوم ، ولا ترخى ظفائر ليلها أو شلالات شعاعها على ظلم أو رضوخ.
في لحظات كان الياسر يرفع يداه رغم حصاره في مقر المقاطعة في رام الله التي اراد المجرم شارون تحويلها الى انقاض ، صمد الرئيس الرمز مع شعبه ، رفض التنازل او التوقيع في كامب ديفيد الثانية، فكان إنسانا ثوريا فريدا ، لكل هذا بكته فلسطين ، دمشق ، بيروت ،عمان ، الجزائر ، المغرب ، بغداد ، تونس ، القاهرة ، وكل دول العالم ، حيث استطاع أن يقول للعالم انني حملت غصن الزيتون بيد والبندقية بيد ومن يريد السلام الحقيقي فليتفضل ، ومن يريد المقاومة انا جاهز ، اردوا اغتياله حتى لا تنكشف جريمتهم البشعة بحق رمز القضية وعنفوانها ، ونقل الى مستشفى باريس ، ولكن لم يتمكن الاطباء من معالجته ، وفي يوم 11 / 11 / 2004 غادرنا الرئيس الرمز في باريس البعيدة بكت زوجته وابنته، وفي أماكن كثيرة، بكى كثيرون من اخوانه ورفاقه، كانت الخسارة فادحة لقائد مسيرة النضال الوطني الفلسطيني ولحركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية ، ودعته رام الله بجنازة تليق بقائد المسيرة ودفن في مقر المقاطعة ، وخرجت مصر ودمشق وعمان ومخيمات اللجوء في لبنان بجنازات رمزية.
لقد اتخذ من الصدق مبدأ، مع نفسه أولا ثم مع الغير، إن قلوبنا التي تهفو كلما سمعت إسم ياسر عرفات ورفاقه الشهداء قادة النضال الوطني الفلسطيني تتمنى لو اتعظ قادتنا اليوم بما كان القادة الشهداء الذين رحلوا من العلاج والخروج بالحل الذي يرضي جماهير شعبنا الفلسطيني،
وكيف كانت آراؤهم التي حافظوا عليها ولم يتخلوا عنها أمام الاصدقاء والخصوم، القضية الفلسطينية همهم، وحق العودة لا تنازل عنه.
ياسر عرفات مضي في سباته الجسدي لكن روحه الطاهرة تحوم حولنا وتناشدنا ليس فقط شد الهمم والصبر على مواصلة مسيرة النضال بلا هوادة ضد كل من يحاول شطب اي حق من حقوق الشعب الفلسطيني ، لانه كان يؤمن إيمانا قاطعا بأن سلاح الوحدة الوطنية هو الحاسم في نجاح مشروعنا الوطني وبدونه لا مجال لتحقيق أي هدف مهما حسنت النوايا أو صدقت مقاصدنا وإخلاصنا لقضيتنا، ومن هنا وجدناه يقدم في تجربة الوحدة نماذج كبيرة لتفكير رجل يتمتع بأفق واسع من الفهم الدقيق لمرحلة التحرر الوطني والقانون الذي يحكمها في موضوع الصراع الداخلي بين فصائل العمل الوطني المختلفة، كما كان يقدم الحلول المناسبة لمعضلات التجاذب الخطيرة حين تعصف بنا ضغوط ومؤامرات القوى الخارجية .
وامام ذكرى قائد عظيم من قادة حركة التحرر نحن إذن أمام عملية استعادة لأصل الصراع ، لكن لا ينبغي علينا استسهال الأمر ، فهي ليست عملية ارتجالية ولا ميدانا للمزايدات ، انها تحدي المستقبل الذي يفرض علينا ثورة في الوعي ، وثورة في تفعيل وتطوير الحياة الداخلية للخروج من أزمتنا الداخلية الراهنة صوب النهوض السياسي والفكري ، وتطبيق شعار المقاومة الشعبية بكافة اشكالها ضد الاحتلال في الضفة الفلسطينية ساحة الصراع السياسي الرئيسية اليوم بصورة منهجية وهادفة ، ستضمن بالضرورة استقطاب قطاعات واسعة من الجماهير في الداخل والخارج ، بما يضمن تحقيق أساليب النضال السياسية والديمقراطية والكفاحية ، والالتحام بالجماهير في علاقة تبادلية محكومة بالوحدة والترابط الجدلي بين النضال الوطني التحرري على المستويين الفلسطيني والعربي .
امام كل ذلك اعود الى ما قاله يوما الشهيد القائد الامين العام ابو العباس عن الرئيس ياسر عرفات ، فقال ابو عمار اعطى جل جهده لفلسطين ولشعبه، وقاتل وقاوم، وصارع، وقاد الشعب الفلسطيني من محطة الى محطة، ومن زمن الى زمن، ومن موقف الى موقف، وظل صامدا في وجه المطالب الاميركية والصهيونية توافقنا كثيرا، وتوحدنا في اغلبية الاراء وتباعدنا في بعضها ، لكنها فلسطين وحدها كانت الوسيط الأهم بالنسبة لنا ، حيث هي الغاية والهدف، فقد كانت فلسطين بثورتها وشعبها وشهدائها وأسراها اكبر من اي خلاف او تنافر فقد كانت فلسطين هي الروح التي نستمد منها العزم والتصميم والالتحام والوحدة.
وفي ظل هذه الظروف الدقيقة يجب علينا ان نحول رمزية الشهيد ابو عمار، الى رمزية وقدسية فلسطين،ورمزية منظمة التحرير الفلسطينية التي لا ترحل ، فاشتقاق النموذج الفلسطيني في النضال والقيادة والسلطة يجب ان يتمظهر بصور حية عبر قدرة شعبنا على تجاوز شدائده ومحنه، فالشعب الفلسطيني اليوم هو احوج ما يكون إلى الوحدة الوطنية والى حماية منظمة التحرير الفلسطينية ومشروعها الوطني، كي تتحمل المسؤولية التاريخية في قيادة نضال الشعب الفلسطيني على المستوى العالمي، وكي تبقى الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا والذي مثلته طوال مسيرتها النضالية امام العالم بدوله ومؤسساته ورأيه العام ، وهذا يتطلب من الجميع تطوير وتفعيل مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية على ارضية شراكة وطنية حقيقية ، ورص الصفوف ومغادرة مواقع الخلاف والتنافر، والسير بالوحدة الوطنية عبر هذا الماراتون الفلسطيني الطويل الذي لم نقطعه بعد، وهو امر يفرض ويستوجب من القوى الوطنية والاسلامية والسلطة الفلسطينية ان تعمل وتبحث عن الصيغ الممكنة والمناسبة لقيادة الشعب الفلسطيني وقواه وفصائله ومقاومته الشعبية من خلال تنظيم صفوفها وأفعالها وسياساتها وتكتيكاتها التي بنيت بدماء الشهداء وجهد المناضلين والقادة.
لقد اعطى الرئيس الرمز الشهيد ياسر عرفات الكثير، لشعبه وقضيته ، وحول قضية الشعب الفلسطينيمن قضية إنسانية الى قضية سياسية مشروعة وحق وطني مسلوب امام كل المؤسسات الدولية، فأن التاريخ يسجل للراحل الكبير ان فلسطين كانت حلمه، والدولة الفلسطينية كانت هاجسه وكان رابط الجأش تردد دائماً امام الصعاب والحصار "يا جبل ما يهزك ريح".
لهذا نقول في ذكرى رمز فلسطين، قليلة هي الشعوب التي استطاعت الوصول إلى ما وصل إليه الشعب الفلسطيني من عظمة في الإبداع والتحدي والتحمل والنضال ، ومن الإستعداد دائما لمواصلة الصمود حتى ولو عصفت به الظروف وصلت الأمور إلى رمقها الأخير ، فمن رحم المستحيل كانت في أغلب الأحيان تولد المعجزات ، ويأتي النهوض الذي سرعان ما كان يتحول إلى دروس وعبر ينحني لها التاريخ وهو يدونها على صفحاته بأحرف من دم ونور ، وهذا الكلام سيبقى قليل ومتواضع وغير منصف بحق الشعب الفلسطيني العظيم الذي إنفرض عليه أن يدافع وحيدا عن اعظم قضية وعن اقدس عاصمة هي القدس العربية ونيابة عن كل العالم ، ليقول الأرض ارضنا ، وترابها وحجارتها لنا وحدنا ومن حقنا ، وكذلك الشجر وكل العصافير التي تغرد على الأغصان ، هذا الشعب العظيم موجودا ويتنفس من رئة هذه القضية العظيمة ويواصل الدفاع عنها فلن نفقد الأمل أبدا وهو يخوض المعركة ضد آلة الإجرام الصهيونية .
عشرة سنوات على استشهاد الرئيس الرمز مضت مازال شعبنا يواجه الهجمة المعادية ، في ظل انشغال الدول والشعوب العربية بالازمات التي خططت لها بإحكام القوى الامبريالية والصهيونية والرجعية، ونفذها شذاذ آفاق وجهلة خضعوا لغسيل دماغ متقن عصابات الارهاب المسمون انفسهم داعش والنصرة الذين يرتكبون افظع المجازر بحق الشعوب في سوريا والعراق ولبنان ، وقل مثل ذلك في مصر واليمن وتونس وليبيا وغيرهما. وتدعم كل هؤلاء بعض الدول الخليجية التي جندت كل امكاناتها المادية واللوجستية والعسكرية والاعلامية للجماعات التكفيرية التي عمّدت اقوالها بالدم والذبح عامدة متعمدة حتى تبقى عالقة في ذاكرة الضحايا ممن وقعوا ضحية الارهاب الاعمى القادم من وراء الحدود، لتكون القطيعة هذه المرة بين الشعوب لا بين الأنظمة ،وهو أخطر داء يمكن أن يصيب الأمة، ويعزلها عن قضاياها المصيرية وعلى رأسها قضية فلسطين ومقدساتها الاسلامية والمسيحية وتغيير معالمها العربية.
ان ما جرى في غزة من تفجيرات بحق قيادات من حركة فتح وترك رسائل تهديد لهم من عصابات داعش ، يؤكد ان البعض يريد خلط الاوراق وفرض الفوضى على ساحة قطاع غزه وتعطيل المصالحه الفلسطينيه واحداث ارباك داخلي من اجل تمرير المشروع التهويدي ووقف المواجهة في القدس واشغال الشعب الفلسطيني باقتتال وفوضى داخليه تهدف الى خلط الأوراق بهدف ابعاد الأنظار عن جرائم الاحتلال ، لهذا نقول ان على حركة حماس وجماعات الإسلام السياسي ، بالرغم من اختلافنا السياسي والأيديولوجي معهم، لأن الوطنية علمتنا كيف ننفتح على كل أبناء فلسطين حتى الذين نختلف معهم بالرأي ، ولأيماننا بأننا ابناء قضية واحدة ، وشعبنا يواجه الاحتلال بارادة موحدة الهجوم المبرمج على المقدسات الاسلامية والمسيحية، خصوصا المسجد الاقصى، ومحاولة الضغط من أجل تقسيمه زمانيا ومكانيا تمهيدا للاستيلاء عليه، وعلى طريق تهويد المدينة ومحاصرتها بالكامل، والتي تتطلب من الكل الفلسطيني توحيد الموقف، ورص الصفوف وتمتين الجبهة الداخلية ونصرة أهلنا في القدس، لذلك فإن ما جرى يتطلب من الاخوة في حركة حماس ملاحقة من ارتكب هذه الاعمال ومن اصدار البيان الداعشي من اجل اجل الحفاظ على الوحدة الوطنية والمشروع الوطني ، حتى نكون قادرين على تحمل استحقاقات المرحلة النضالية الراهنة.
ختاما : في ذكرى الرئيس الرمز لم تزل فلسطين هي الموحد القوي لقوى شعبنا الفلسطيني وأطيافه وشرائحه في قراه ومدنه ومنافيه، وعلينا ان نتحلى بالشجاعة والإرادة والتصميم ونردد امام عدونا الصهيوني وكل من يتربص بنا شرا وضررا كلمة نستعيرها من رمز فلسطين القائد الشهيد ابو عمار"يا جبل ما يهزك ريح"، فلن تؤثر في صمودنا هوائل الزمن، ولن ينال من عزيمتنا غياب القادة ورحيل الرموز، بل هي مناسبة لتحويل احزاننا الى افعال وبرامج ومواصلة للنضال وتوهج للابداع الفلسطيني في تجاوز كل المصاعب.