أخيراً تمكنت إتجاهات في الساحة السياسية الفلسطينية من إجهاض مهرجان إحياء الذكرى العاشرة لإستشهاد الرئيس ياسر عرفات، وهي مناسبة وطنية هامّة تؤشر على مدى أصالة الشعب ووفائه للشهداء وللقضية الوطنية التي قضى من أجلها الشهداء.
التفجيرات التي حصلت أمام منازل نشطاء حركة فتح، وما تلاها من تصعيد إعلامي بين حركتي حماس وفتح، وتخلّي داخلية حكومة حماس عن تأمين المهرجان، كانت الأسباب المعلنة وراء إلغاء المهرجان، وجرى تمرير المسألة تحت هذه العناوين الإعلامية تجنباً لسخط آلاف الفلسطينيين الذين يجدون في هذه المناسبات فرصة للمشاركة السياسية الواسعة بعد أن حرموا منها جراء واقع الإنقسام وتحوّل فرعي السلطة في الضفة الغربية وقطاع غزة إلى حالة أمنية قمعية هدفها الأساس منع التحركات الشعبية مهما كان حجمها ونوعها وغرضها سواء في مواجهة الإحتلال أو للإحتجاج على الأوضاع الداخلية الكارثية المستمرة والمرشحة للتفاقم في ظل حالة شاذة يعيشها الشعب الفلسطيني منذ إستشهاد القائد ياسر عرفات حتى يومنا هذا.
حركة حماس قامت بما قامت به وهي تعلم تماماً أنها ستتحمل المسؤولية عمّا فعلت، ولن يخجلها ذلك رغم نفيها الضلوع في عملية التفجيرات وتشكيلها للجنة تحقيق في هذا الحدث، ودعوة بعض قادتها لإقامة المهرجان، فقد قامت بما هو أكثر من تعطيل مهرجان إحياء الذكرى العاشرة لإستشهاد أبو عمار، في مقابل ذلك لم تقم مركزية فتح ورئيسها بتحمّل مسؤولية الإستمرار في إقامة المهرجان، على الأقل من باب قطع الطريق على هدف منفذي عمليات التفجير وإفشال "مخطط" مجموعة أو إتجاه في تقرير مصير شعب، ولترسيخ قاعدة مستقبلية مفادها أن إرادة الشعب أكبر بكثير من "خطة" مجموعة حتى وإن كان ذلك ينطوي على جانب من المخاطرة.
الغريب في الأمر أن الحكومة الفلسطينية المتوافق عليها فصائلياً وأمريكياً بادرت فوراً لإلغاء إجتماعاً كان مقرراً له أن يجري في قطاع غزة، رغم أنها نظّمت إجتماعها الأول في غزة بحراسات مشددة لم تحظ بها أي حكومة في العالم، وهي تعلم تماماً أنها لن تتعرض لأي إعتداء شعبي عفوي أو جماعي منظم أو حتى فردي، وكأنها وجدت ضالتها في هذه التفجيرات لتتنصل مما كانت مرغمة عليه بفعل الضغط والغياب غير المبرر عن جزء من الوطن تعرض لحرب مدمرة، مع العلم أن نائب رئيس الوزراء وعدد من الوزراء يقيمون في غزة، والإعتداء على أحدهم أمر سهل المنال لو أرادت جهة ما القيام به.
في هوجة الإعلام الفصائلي إستحضرني قول الشاعر احمد مطر " إثنان يخافان من يقظة النائم هما اللص والحاكم" وهذا القول مع التعديل ينطبق على ما يجري في غزة والضفة، فحماس وعباس هما أصحاب المصلحة المباشرة في بقاء الشعب نائماً أو في سكرات الموت، هما أكثر من تزعجه حالة النهوض الشعبي سواء كان ذلك في إحياء ذكرى إستشهاد الرئيس عرفات أو في غيرها من مناسبات وطنية وفعاليات إحتجاجية، لأن نهضة الشعب تعني لهما الكثير، لهذا تساق الذرائع وتخلق المبررات لإجهاضها من أجل تثبيت واقع أراده المجتمع الدولي وسخرًت له كل أموال المانحين.
يقظة الشعب خطر كبير على مشروع إسمه السلطة الفلسطينية بما تقدمه من إلتزامات أمنية تخفف من أعباء الإحتلال، وسياسية عنوانها المفاوضات والمفاوضات ثمّ المفاوضات حتى ينقطع النفس، خطر يمتد ويطال الإحتلال المختبئ في تفاصيل الإتفاقات الأمنية والإقتصادية كان آخرها إتفاق وقف النار بعد الحرب على غزة وشروط الإعمار المذلّة التي حاولت حماس البراءة منها بعد إنكشاف المستور في خطة "روبرت سيري" للرقابة والتفتيش وزوال وهم إنهاء الحصار والموت في سبيل الميناء والمطار.
قد يتألم عدد من أبناء "حركة فتح" عند تذكيرهم أن رئيسهم كان أكثر المتضررين من مليونية إحياء الذكرى"48" لإنطلاقتهم في ساحة "السرايا" قبل عام، لهذا قام بمعاقبة فتح بفرض هيئة قيادية هزيلة تزامناً مع تقليصات على الموازنات والرواتب وقطع أرزاق عدد كبير من الموظفين، وتعيين المحافظين وغيرها من إجراءات إتسعت آثارها لتطال غالبية أبناء الشعب الفلسطيني، وإستمر في هجومه على قيادات تاريخية مناضلة قامت ببناء حركة فتح ودافعت عن هويتها الوطنية وريادتها في العمل الوطني ورافقت الشهيد ياسر عرفات في أخطر محطاته الكفاحية، يقوم بكل ذلك وهو يدرك أن حركة قوية فاعلة تعني وجود قيادة قوية صانعة للقرار وشريكة فيه وحاجزاً أمام تفرده في كل مفاصل السياسة الفلسطينية وبقايا نظامها السياسي، فهو المستفيد الاول من إلغاء المهرجان الذي سيساهم في انبعاثة جديدة لحركة أوهنتها العديد من الضربات بعد أن حقق منفذي التفجيرات رغبتهم في منع المهرجان.
توافق عباس مع حماس لم يعد سراً على أحد، تمخض عنه تشكيل حكومي بإمتداد إقليمي دولي مركزه إمارة قطر، وبرنامجه السياسي يقتصر على الهدوء والعودة إلى لعبة مفاوضات لا تنته، وإغراق الشعب الفلسطيني بمشكلات لا حصر لها، ومشاغلة الرأي العام في تفاصيل من نوع "الذهاب إلى مجلس الأمن لوضع سقف زمني لإنهاء الإحتلال"، في نفس الوقت لا يجرؤ التمرد على تهديد إسرائيل في الإنضمام إلى "ميثاق روما"، فقد وجد ضالته في الأمم المتحدة لتغطية الإفلاس السياسي الذي يحاصره، وكأن الأمم المتحدة خالية من مئات القرارات المهمة المتعلقة بالقضية الفلسطينية !.
ذكرى إستشهاد "أبوعمّار" محطة أخرى كشفت عن حجم الدمار الذي لحق بأخلاق القيادات السياسية الفلسطينية، وعن إنهيار أضاليل المصالحة والتوافق الوطني أمام المحكات العملية، وهزالة الحالة السياسية الفلسطينية، فالتوافق الوحيد الذي يجمع عليه حماس وعباس هو إخماد نهضة شعب سئم كل هذا العبث ولم يعد يحتمل المزيد من سجالات اللص والحاكم.
[email protected]