نقف اليوم لنتأمل الحالة الفلسطينية ، ونحن امام 26 عاما على اعلان الاستقلال الفلسطيني في الخامس عشر من تشرين ثاني/1988، فأين نحن من مضامين هذه الوثيقة التي تعتبر ثمرة كفاح الشعب الفلسطيني على أرض وطنه وفي اماكن اللجوء والشتات والمنافي ، هذا الشعب الذي ما يزال يتطلع الى اعلان الاستقلال هدفا كفاحيا ونضاليا يلتف حوله ، في مواجهة كل محاولات الطمس والتذويب والتوطين والتهويد والحلول ذات الطابع الاقتصادي , حيث يتطلع الشعب الفلسطيني لتجسيد إقامة دولة فلسطين الفعلية على أرض فلسطين , لقد عزز هذا الاعلان الاعتراف الدولي الواسع بمشروعية النضال الفلسطيني وحقه في إقامة دولته المستقلة على تراب وطنه كاملة السيادة بعاصمتها القدس , أسوة بشعوب الأرض قاطبة.
نعم على أرض الجزائر بلد المليون ونصف مليون شهيد وقف القادة الفلسطينين في المجلس الوطني الفلسطيني وفي مقدمتهم رمز الثورة الفلسطينية والأحرار الرئيس الرمز الشهيد ياسر عرفات يصدح بصوته الهادر في كلمته التاريخية التي هزت القلوب وحركت مشاعر المئات من الحاضرين في قاعة قصر الصنوبر في مدينة الجزائر والتي غصت بالشخصيات الوطنية والقيادية والسياسية في"دورة الشهيد أبو جهاد" في15 تشرين الثاني 1988م ، معلناً في خطابه التاريخي أمام الحاضرين قائلاً: باسم الله باسم الشعب العربي الفلسطيني نعلن قيام دولة فلسطين فوق أرضنا الفلسطينية وعاصمتها القدس ، حيث جاء إعلان الاستقلال تتويجاً لثمرة كفاح ونضال طويل معمدة بدماء الشهداء وتضحيات ألاف الأسرى العظماء قدمها الشعب الفلسطيني بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، هذه الوثيقة لاعلان دولة فلسطين التي صاغها الراحل الشهيد الشاعر الفلسطيني العربي الكبير محمود درويش والتي تعتبر انجازاً وطنياً وتاريخياً للشعب الفلسطيني وتجسيداً لأهداف الانتفاضة الباسلة واعتماد القيادة الفلسطينية على الركن القانوني لتجسيد حلم الدولة الفلسطينية المستقلة وتمسك الشعب الفلسطيني بحقه الطبيعي
والتاريخي في وطنه و بقرارات الشرعية الدولية .
لقد وقف العالم أجمع يرحب بهذا الإعلان الذي كان بمثابة نقطة تحول في بوصلة مسيرة الثورة الفلسطينية والنضال الفلسطيني، ومسار تاريخ المنطقة حتى توالت الاعترافات الدولية والعربية بدولة فلسطين معترفة بها 105 دولة وافتتحت السفارات والممثليات الدبلوماسية لفلسطين في مختلف دول العالم المعترفة بالاستقلال، وإنطلاقا من ذلك ارى ان الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية، جاء بعد أحداث تاريخية هامة في حياة الشعب الفلسطيني وتطورات مهمة في المنطقة العربية ، تبين طبيعة الفرح وحجم المعاناة والصراع على إمتداد اكثر من نصف قرن منذ عام 1947 حتى اللحظة لم يفقد اللاجئون الفلسطينيون الأمل بتحرير أرضهم وبالعودة الى مدنهم وقراهم وبناء دولتهم اسوة بشعوب الارض، وخاصة بعد ان عانى الشعب الفلسطيني داخل وطنه وخارجه من الظلم والقهر ما لم يعانيه شعب آخر، وصلت في بعض الأحيان وفي بعض المواقع الى حدود الإبادة الجماعية، كي لا تقوم في المنطقة دولة فلسطينية، لكنه لم يضيع الآمال، فقد سلم الشهادة للجيل اللاحق ومعه مفتاح الحياة، ملفوفا بباقة من ورود الأمل بالدولة والعودة والاستقلال ،
وهذا ما اكده الرئيس ابو مازن في خطاباته امام الجمعية العامة للامم المتحدة .
وامام هذه الظروف نؤكد على قوة القضية الوطنية وعدالتها، ومستوى تبني شعوبنا وقواها الحية لنضال شعب فلسطين ومساهمات الرئيس الشهيد أبو عمار والقيادة الفلسطينية البارزة في الانتصارات السياسية، قد تمكنوا من فرض الحضور الدولي والعربي.
وفي هذا السياق نستذكر موقف القائد الشهيد ابو العباس أثناء انعقاد المجلس الوطني عام 1988 الجزائر، فبالرغم من موافقته على قرار المجلس آنذاك بالنسبة لإعلان استقلال الدولة الفلسطينية، إلا انه أكد تحفظه على القرار 242 لان ذلك يعني التخلي عن الهدف الاستراتيجي، ذلك إن إعلان الدولة كما قال جاء يشكل استجابة لشعار انتفاضة شعبنا في الضفة والقطاع ،وهدفها حشد كافة الإمكانيات لمواصلة النضال كخطوة تكتيكية هدفها الوصول في نهاية الأمر إلى أهدافنا الإستراتيجية، موضحا انه يمكن توظيف الشرعية الدولية لخدمة الشرعية التاريخية ، ولكن في الوقت الحاضر هناك شبه إجماع عربي ودولي على ضرورة أخذ الحق الفلسطيني بعين الاعتبار مع إدراكنا بان الحق الفلسطيني وفق الشرعية الدولية لا يتطابق مع حقنا التاريخي والطبيعي في أرضنا، لكنه يشكل خطوة في مصلحتنا ومن الضروري أن نستثمرها ونستفيد منها، بعد ذلك سيتضح أمام العالم وأمام الرأي العام الدولي بشقيه الرسمي والشعبي ان العدو الصهيوني لا يمكن أن يعطينا حقنا الذي اعترفت به الشرعية الدولية، وهذا ما سيمكننا من متابعة معركتنا مستندين الى الشرعية الدولية والرأي العام الدولي الرسمي والشعبي.
واليوم يأتي اعلان استقلال فلسطين وسط تصاعد وتائر العدوان والاستيطان وتهويد القدس وتغيير طابعها العربي والإسلامي، وفرض الحقائق على الأرض وسن القوانين العنصرية القائمة على نفي حقوق الشعب الفلسطيني في العودة والاستقلال، وعلى المضي في تجديد النكبة والتهجير بالعنف والإرهاب من ارض آبائه وأجداده.
في ظل التحديات الخطيرة التي تتعرض لها القضية الفلسطينية ، وامام التهديدات المتواصلة لقادة الاحتلال ضد القيادة الفلسطينية والعدوان المتواصل على الشعب الفلسطيني من خلال تدنيس المسجد الاقصى وتغيير الوقائع على الأرض في القدس والضفة الفلسطينية من خلال التهويد والاستيطان ، حيث يقف الشعب الفلسطيني في خندق المواجهة ويقدم الشهداء، وهذا يستدعي رسم إستراتيجية قادرة على استنفار قوى الشعب الفلسطيني في مختلف مواقعه، وتحشيد كل أشكال التضامن الشعبي العربي والإقليمي والدولي، فالقضية الفلسطينية هي قضية تحرر وطني وقضية تقرير مصير وقضية حرية وعدالة، ونحن نتطلع الى توجه القيادة الفلسطينية الى مجلس الامن الدولي بعد فشل المفاوضات الثنائية برعاية الادارة الامريكية ، نرى الحراك الامريكي الذي يسعى لعرقلة التحركات الفلسطينية المدعومة سياسيا ودبلوماسيا من الدول العربية والإسلامية ومجمل الدول الصديقة للشعب الفلسطيني على المستوى العالمي، التي أبدت دائما مواقف راسخة تجاه تأييد حق الفلسطينيين في إقامة الدولة الفلسطينية بعاصمتها القدس .
ان ما نراه اليوم من محاولات لكبح الهبه الشعبية في القدس والضفة الفلسطينية ، يتطلب من الجميع مواقف حازمة باستمراية الهبه الشعبية وحق المقاومة الشعبية بكافة اشكالها لانها ثابت وطني ما دام الاحتلال قائما علي أرضنا ومقدساننا ، إنه حق يستمد شرعيته من القانون الطبيعي والشرعية الدولية، وبالتالي ليس من حق احد آن يتصرف بهذا الحق ما دام الاحتلال جاثما علي ارض فلسطين، ولا يعترف بحقوق الشعب الفلسطيني ، وان جسر الهوة بين إعلان الاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية على الأرض مهمة كفاحية شاملة وطويلة ، مهما كان حجم الهجمة الصهيونية- الأمريكية على المنطقة، ذلك لقناعتنا العميقة بأن صمود شعبناهو أقوى من كل المؤامرات ، وهذا يستدعي في هذه الظروف الصعبة التي نواجه فيها عدوا عنصرياً واحتلالياً, يصادر الأراضي الفلسطينية ويقيم عليها مستوطناته اليهودية, ويعزل السكان الفلسطينيين عبر جدران الفصل العنصري, ويقيم الحواجز ويمارس الإرهاب بكل اشكاله ، العمل من أجل حشد التضامن العربي والعالمي لمواجهة الاحتلال الصهيوني العنصري ومن أجل الانتصار لقضايا شعبنا الفلسطيني في الحرية والاستقلال والعودة وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.
ان شعبنا يقدر كافة الأسرى بمختلف انتماءاتهم، اجل تقدير، وهو يستشعر معاناتهم خلف القضبان، ويسعى بفعالياته إبقاء قضيتهم في صدر الاهتمام ،لان موقعهم في القلب والوجدان ، حيث يعيشون معنا في كل لحظة من يومياتنا ,ولن نوفر جهدا أو نضالا من أجل تحريرهم، فتحية إلى المناضل الصامد القائد أحمد سعدات الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ,وإلى القائد المناضل مروان البرغوثي عضو اللجنة المركزية لحركة فتح , وكل الأسرى والاسيرات والمعتقلين القابعين في السجون والمعتقلات الصهيونية دون استثناء.
ان ما جرى مؤخرا في غزة تتحمله سيادة منطق الاستبداد مما يؤدي الى انتشار مظاهر القلق والإحباط والخوف، الأمر الذي مهد لإثارة المزيد من تفعيل الازمة الداخلية ذات الطابع الديني ألعدمي المتطرف, وبدرجات متفاوتة, وهي أزمة ستكون لها نتائج وتداعيات خطيرة على مجمل نسيج الحركة الوطنية, ومجمل الوحدة الوطنية والأمن الاجتماعي, خاصة في ظل تراخي او عجز السلطة القائمة هناك وانتهازية بعضها عن الإسهام بدورها في انهاء الانقسام وإطفاء الصراع الداخلي ووقف أسباب الأزمة على قاعدة وضوح الرؤية والإستراتيجية الوطنية باعتبارها تشكل الناظم للجميع.
إن استعراضنا لما جرى في قطاع غزة يظهر مجموعة من الحقائق والمؤشرات الدالة على الظروف والعوامل وعدم موافقة البعض على حكومة الوفاق الوطني التي نالت الاجماع الفلسطيني استغلها البعض ليربك الشارع الفلسطيني وافشال قيام حركة فتح بهذا المهرجان الكبير في ذكرى القائد الرمز الشهيد ياسر عرفات ، خوفا من ان تنقلب الطاولة ، ولنا في تجربة الأعوام الماضية أن نستنبط العديد من الأمثلة على هذه الاوضاع التي ينجم عنها ما نسميه بإعادة إنتاج العقلية المتخلفة من خلال الممارسات التي تسللكها بعض الاجهزة الامنية للسلطة في غزة يوميا سواء بالاستدعاءات والملاحقات والاعتقالات، أو بالحد من حرية التعبير والتعددية، او بفرض قوانين وتشريعات في ظل الانقسام بعيدا عن الرؤى الوطنية والمجتمعية التوحيدية، الأمر الذي أضعف قدرات الشعب على الصمود أمام التحديات الإسرائيلية التي تمعن في فرض المزيد من الانتهاكات بحق الأرض والإنسان الفلسطيني، مما يتوجب على الاخوة في حركة حماس ضرورة الاستجابة الى القاعدة الوطنية لإنهاء الانقسام، لأن بقائه واستمراره اصبح خطراً على مكانة القضية، وعلى وحدة الشعب في مواجهة الاحتلال، وهذا ينطلق ينطلق من بعد وطني وباعتباره ضرورة ومقدمة لإعادة بناء الوضع الداخلي الفلسطيني .
امام هذه الذكرى المجيدة لاعلان الاستقلال الفلسطيني نؤكد على تعزيز الوحدة الوطنية الفلسطينية ضمن اطار منظمة التحرير الفلسطينية الإطار الجامع والموحد للشعب الفلسطيني داخل فلسطين وخارجها وحماية المشروع الوطني الفلسطيني وانهاء الانقسام الكارثي وتطبيق اتفاق المصالحة وترتيب البيت الداخلي الفلسطيني ومشاركة فصائل منظمة التحرير الفلسطينية بكافة القرارات والمؤسسات والاتحادات واللجان الشعبية على قدم المساواة على اسس ديموقراطية، ينتفي منها الفردية والاستئثار ، فلا يجوز ان تبقى الامور على حالها ولم تجد حلولا ترقيعية في ظل المخاطر التي تتعرض لها قضيتنا الوطنية ، وان نعمل على درء الخطر المحدق بالافعال لا بالكلمات والمجاملات، لاننا نحن شركاء في الدم لنكون معا شركـاء في القرار، ورسم استراتيجية وطنيه تستند لكافة اشكال النضال، لأن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة هي مهمة كفاحية تتطلب حشد طاقات الشعب الفلسطيني والتوجه الى الامم المتحدة ومجلس الامن الدولي من خلال فضح ممارسات الاحتلال أمام المجتمع الدولي، والتصدي لسياسته العدوانية ،وعدم العودة الى مسار المفاوضات الثنائية التي ثبت فشلها، من خلال المرجعية الأمريكية حيث ثبت انحيازها الكامل والمطلق إلى كيان الاحتلال.
إن ما ما تخطط له الإدارة الأمريكية بشراكتها مع العدو الصهيوني ومن خلال زرعها لعصابات ارهابية وتكفيرية يقود في المحصلة المنطقة العربية نحو المزيد من الكوارث والحروب، والصراعات الطائفية والمذهبية التي يراهن عليها الأعداء, وتلك هي المخاطر التي ينبغي على الشعوب العربية قاطبةً مواجهتها ، كما يستدعي ذلك حماية المقاومة والمنجزات التي حققتها وتوجيه البوصلة نحو فلسطين القضية المركزية للامة العربية.
ختاما : وفي ذكرى اعلان الاستقلال نقول بكل وضوح يجب ترجمة وثيقة الاستقلال التي اعلنها الرئيس الشهيد ياسر عرفات في المجلس الوطني الفلسطيني عام 1988، والعمل من اجل الحرص على هويتنا الوطنية ما يعني أن نرفض ونستبعد سياسات الإقصاء والاستئصال المتبادل عبر الالتفاف حول الأفكار والثوابت الوطنية، واليوم القدس هي الاختبار النهائي،وأقول لامعنى ولا طعم لاي انتصار حقيقي بدون القدس ، ولامعنى لفلسطين بدون القدس ، معركتنا الحقيقية هناك ، في ساحات القدس واحيائها بجوامعها وكنائسها وأرضها وباحات المسجد الأقصى ، بما يضمن تحقيق البعد الثوري لعملية وأساليب النضال السياسية والكفاحية ، والالتحام بالجماهير في علاقة تبادلية محكومة للوحدة والترابط الجدلي بين النضال الوطني التحرري والديمقراطي على المستويين الفلسطيني والعربي.
كاتب سياسي