اليرموك وياسر عرفات (أول الرصاص .. أول الحجارة)

بقلم: علي بدوان

من دفاتر اليرموك (216)

اليرموك وياسر عرفات (أول الرصاص .. أول الحجارة)

نعيد في الذكرى العاشرة لرحيل الرئيس ياسر عرفات، تدوين بعض الوقائع السريعة، التي تُلخص لحياة الشهيد الراحل مع مخيم اليرموك، وهو الذي عَرِفَ اليرموك وعَرَفَه اليرموك باكراً.

كان مخيم اليرموك، نقطة البداية في المشوار الكفاحي المعاصر للحركة الوطنية الفلسطينية. فمن بين أزقته وحاراته، وتعرجاته، إنطلقت الرصاصة الأولى للثورة الفلسطينية المعاصرة. ومن بين ابنائه سقطت القوافل الأولى من شهداء الثورة والمقاومة. وتحت تراب اليرموك رقدت وبسلام أجساد القوافل الأولى من الشهداء، وهي القوافل التي تعاقبت ومازالت تتعاقب لتدفن في أول مثوى لشهداء فلسطين في الثورة المعاصرة.

كان مخيم اليرموك، ميداناً لعمل المجموعات الأولى التي عملت على تأسيس القاعد المقاتلة. ومن بين أبنائه صَعَدَ الفدائيون. وكان أبو عمار يَجٍد في مخيم اليرموك ومعه الرعيل المؤسس، التربة الخصبة التي أنجبت قوافل المناضلين وطوابير الثوار الذين ملؤا معسكرات التدريب وقواعد المقاومة على إمتداد جبهة أغوار الأردن ولبنان والجولان، وحتى في الداخل المحتل عام 1967 الذي إزدلفت اليه مجموعات الفدائيين قبيل وبعيد إحتلال القدس والضفة الغربية وقطاع غزة.

لقد كان أبو عمار، يعيش يومياته تلك السنوات مابين معسكرات حركة فتح، وخاصة منها معسكر الهامة، ومخيم اليرموك، ومعه أبرز قيادات حركة فتح، ومنهم الشهيد خليل الوزير. اللذين طالما عاشا بين الناس في اليرموك بيومياتهم وتفاصيل حياتهم وأحلامهم الوطنية. ولنا عشرات الوقائع واليوميات في هذا المجال.

إن أول ظهور علني وجماهيري لشخص ياسر عرفات في مخيم اليرموك، كان في السابع عشر من شباط/فبراير 1967 عندما قامت حركة فتح وجناحها العسكري بتشييع كوكبة من شهدائها الذين سقطوا في حادث تدريبي في معسكر الهامة، وكان على رأسهم الشهيد المؤسس في حركة فتح (منهل توفيق شديد). وكانت تلك المناسبة هي المرة الأولى التي أشاهد فيها شخصياً وعن قربٍ شديد ياسر عرفات ببذته العسكرية وكوفيته ومسدسه الشخصي، في وقتٍ لم أكن أبلغ فيه أعوامي الثمانية.

بعد تلك المناسبة، باتت شخصية عرفات مكشوفة ومعروفة لكل مواطني مخيم اليرموك. فعدا عن حضره الدائم لليرموك في المتابعة والعمل، كان دائم الإطلالة على الناس خصوصاً في المناسبات، ومنه مناسبات تشييع الشهداء. وأذكر على سبيل المثال تشييع الشهيد زهير محسن الأمين العام لمنظمة الصاعقة وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية  ورئيس الدائرة العسكرية فيها، في تموز/يوليو 1979 عند ترجل أبو عمار والرئيس الراحل حافظ الأسد وسط شارع فلسطين في مخيم اليرموك وساروا في تشييع الشهيد زهير محسن مسافات طويلة الى مقبرة الشهداء. وهكذا...

وفي مناسبة رحيل أبو عمار أعيد نشر مقدمة كتابي الذي صدر نهاية العام 2004 تحت عنوان حركة فتح من العاصفة الى كتائب الأقصى، والتي تتناول شخصية ياسر عرفات، الذي التقيته أخر مرة في آب/أغسطس 1998 في القاهرة في جلسة عمل فلسطينية كنت من بين أعضائها.

ياسر عرفات … رحلة الاستثناء

 

كان نقطة التقاء أم افتراق، أو مابينهما، برز كحالة اشكاليه في سياساته، فرآه البعض سلساً شفافاً في أداءه داخل معترك المسرح السياسي الشرق أوسطي المعقد، بينما رآه البعض الأخر في خطواته ونهجه السياسي مغمغماً ملتبساً. لكن الشهيد الرئيس ياسرعرفات بقي عند أصحاب الرؤيتين على حد سواء، وعند عموم الفلسطينيين، المالك السحري للمعادلة الذهبية : " نختلف معك ولكن لا نختلف عليك ".

 كان في سلوكه وأداءه اليومي، وحتى في نومه الدائم على سريرعسكري مصنوع من الحديد، وفي مأكله، وفي عاداته، وعمله الليلي الطويل، واجتماعاته بعد منتصف الليل، كان في كل هذا انساناً مغايراً لطبيعة الأشياء، ولرتابة الزعماء وأناقتهم الفائقة. فخالف القوانين المسلم بها، فرأه البعض بصورة  " سلبية " أحياناً، والبعض الآخر رأه بصورة " ايجابية " في أحيان منها. أما هو فبقي تلقائياً ومن خلال المكرر والمستعاد في سلوكه، بقي دوماً يسكب مغذياً هذه النمطية التي يحتاجها الرجل الاستثنائي في " الصورة واشكالياتها "، بينما استمر ازميل الزمن يحفر كل يوم فوق وجنتيه أخاديد وتضاريس التجارب، الممزوجة بالانجازات، والاخفاقات، والانكسارات … فغدا صاحب سحنة خبيرة بخفايا السياسات وكواليسها. سحنة معتقة، تعتيق الفضة بالنحاس، مسكوبة ومسكونة في الهم الفلسطيني …

صمد أمام الوقائع القاسية التي تحكمت بالمنحى البياني المتعثر لصعود وهبوط بارومتر القضية الفلسطينية والصراع مع الاحتلال، فأعاد تكثيف وتزخيم رواية الكفاح الفلسطيني، بينما الاحتلال وبطشه يترك بصماته على الفلسطينيين، جاعلاً منهم مادة خصبة للدراما المأساوية، وآخر هذه الدراما التراجيدية المحبوكة بخيوط الصراع ما يجرى من حصارات واجتياحات اسرائيلية للمناطق السكنية الفلسطينية، وماجرى للرئيس الشهيد ياسر عرفات من حصار مدقع، دون أن يجد يداً عربية ترتفع لتصرخ في وجه الاحتلال.

اكتسب ميدان السبق نحو الشارع والناس، فأنغرس في الوعي الشعبي، وأمتلك حضوره " لاوعي فلسطيني خرافي " بأنه طائر الفينيق الذي ينبعث من تحت الرماد ولايموت، بشكل كاد يلامس الاسطورة حتى حدود الميتافيزيقيا الماورائية. فرفع من حضور شعبية المقاومة وتنظيمها الأكبر حركة فتح، ولم يصب بـ " العصاب السيكوباتي " الشخصي أوالتنظيمي الفتحاوي الضيق، وبقي منفتحاً على الجميع، مرتفعاً فوق الفصائلية من أقصى التطرف اليساري العقائدي الدوغمائي الى أقصى اليمين الوطني. ليتحول الى قائد يعبرعن كل الوان الطيف السياسي، وعن تناقضات المجتمع الفلسطيني، فهو " زعيم المعتدلين، وزعيم المتطرفين " ومدافع عن حق العودة، ولا يقبل بحل سياسي لا توافق عليه غالبية الشعب الفلسطيني.

وعلى هذا الأساس استطاع أن يدير ساحة سياسية فلسطينية " تعج بالعجائب " فهي ساحة مكتظة بكل ألوان  المشارب الفكرية والسياسية، وبكل الخيارات، التي غمرها شغف الذهاب في النحت الفكري والبوح بمخزونها من الاحلام والأهداف العادلة، لم تكن لتشبهها في تضاريسها السياسية والفكرية ساحة من ساحات حركات التحرر في العالم، فهي موزاييك لكل ما ابدعه العقل الانساني من افكار وايديولوجيات سياسية. ففيها الاسلاميين بكل تصنيفاتهم، والعلمانيين الماركسيين، والقوميين من كل أحزابهم … وفيها الذين يريدون تحرير فلسطين من النهر الى البحر، وفيها الذين يريدون اشعال الثورة في العالم العربي ودول الطوق طريقاً الى تحرير كل فلسطين، وفيها الذين يريدون دفن المشروع الصهيوني وهزيمة الامبريالية بضربة قاضية، وفيها الذين يريدون دولة مستقلة عند حدود أراضي 1967، وفيها الذين يقاتلون، وفيها الذين يفاوضون، وفيها من يرى قضية اللاجئين اولوية اولى... وانطلاقاً من زخارف الأرضية الفلسطينية والعربية وحتى الاقليمية الدولية التقي في مصادفة التاريخ مع " معاوية بن أبي سفيان " فلم يقطع يوماً شعرة وصلته بأي إنسان مهما حمل من صفات من الكوادر العادية الى القيادات الأولى على المستوى الفلسطيني، وكذا في الصف العربي، وأحزاب الصف العربي. فكان الحافظ لعلاقات سبق وأن تدهورت لفترة في زمن رديء.

أعجب بالقائد صلاح الدين الأيوبي وتكتيكاته التفاوضية في حروبه الضروس ضد غزاة الفرنجة على بيت المقدس وبلاد الشام وسواحلها، فأراد دوماً أن يصنع الانتصار من رحم منطقة مهزومة، وقيادات مأزومة، وشعوب منهكة، فكانت مخاضات الانجاز الفلسطيني على الدوام مخاضات أليمة، لكنها ليست عقيمة، حيث توالدت من داخل الرحم الفلسطيني المعطاء، وبالتمام والكمال، الانتفاضتين الأولى والثانية بعد الخروج الفلسطيني المسلح من بيروت، فظهرت حكمته في قراءة دقيقة وساطعة لذهنيته السياسية عندما كرر القول في ميناء بيروت البحري قبل صعوده الأخير الى السفينة " أتلنتس " التي غادر بها نحو العاصمة اليونانية آثينا " انني ذاهب نحو فلسطين ".

استطاع خلال أربعة عقود من الزمن الكثيف بأحداثه الفلسطينية أن يكون " الشيء ونقيضه " في آن واحد، فمن حمل غصن الزيتون بيد والبندقية باليد الثانية، الى جعل غصن الزيتون قبل البندقية عبر ترتيب مدروس، يعبر عن حصافة دبلوماسية ودهاء في اجتذاب أكبر قدر من الأطراف الدولية الأكثر اعتدالاً وتفهماً. وعليه جاء في حكمته السياسية قابلاً وقنوعاً بالحلول الوسط والحلول المرحلية، ومكرساً معادلة ارضاء الشعب والتاريخ، فعاد ياسرعرفات ونوارس الثورة معه " الصالحة والطالحة " الى فلسطين ولو على بقعة محدودة في أريحا وغيرها، ليزرع مداميك تجسيد انبعاث الهوية والكيانية الوطنية الفلسطينية على خارطة العالم، نقيضاً لمشاريع وأدها وتذويبها.

أبدع في المقاومة والانتفاضة من خلال العبور من البوابة الضيقة المتاحة أمامه، بين ثنائية : ( سلطة ـ مقاومة )، فاتهمته دولة الاحتلال الصهيوني برعاية الانتفاضة والعمل المقاوم … وكتائب شهداء الأقصى، فاستشهد واقفاً على قدميه دون أن يقدم لهم ما أرادوه من تنازلات فلسطينية على المستوى الاستراتيجي في مفاوضات كامب ديفيد الثانية في تموز/يوليو 2000. وحدد باستشهاده ثوابت فلسطينية لن يستطيع أي قائد فلسطيني من بعده  أن يتجاوزها أو أن يقفز عنها.

 أختصر في رحلته المعقدة التواءات وتداخلات القضية الفلسطينية، وكثّف في مساره المنحى البياني بذراه ونقاط انعطافه مسيرة شعب مكافح، صعوداً وهبوطاً. فكان استثنائياً، في حياته، وفي مرضه، وفي استشهاده، وفي تشييعه محمولاً بنعشه على أكف شباب الانتفاضة والمقاومة … وعلى أكف وزنود فدائيي كتائب شهداء الأقصى وعز الدين القسام وغيرها، مظللاً برايات القوى الفلسطينية من راية حزب الشعب الفلسطيني الى راية الجبهة الشعبية/القيادة العامة وما بينهما.

 دخل وهو في عنفوان " قوة الارادة "، القاموس الفلسطيني وانسكلوبيديا الثورة، ليصبح من الرجال التاريخيين في حياة فلسطين الحديثة والمعاصرة. فما ان ودعناه، حتىعدنا سريعاً الى التاريخ نحاول إيقاظه ومعه السيرة المكتوبة والشفهية، فخرج فوراً بضريحه الى التاريخ، رغم أنه الآتي في حياته من أرض مقطعة الأوصال ومحاصرة، حيث مات في فرنسا، وشيع في مصر ودفن في رام الله، متنقلاً في نعشه بين ثلاث قارات. فأحال في كبوته الأبدية ارادة الاحتلال الى أوهام، حيث أرادوا شطبه من الذاكرة الفلسطينية، وأرادوه رئيساً بلا دولة. وزعيماً بلا حرية، ومواطن ليس له سوى القليل من الأرض، بعد أن تحول حصاره الرابع في رام الله بعد حصارات جرش وبيروت وطرابلس الى بصمات مؤثرة لايمحوها زحف الزمن في التاريخ المعاصر للحركة الوطنية الفلسطينية، وبعد أن انهارت مفاوضات كامب ديفيد 2، حين قال في واشنطن عاصمة القطب الأوحد، وبلغة ديبلوماسية كلمة " لا " الفلسطينية التي أراد بيل كلينتون وايهود باراك حينذاك نقيضها من أجل شطب حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، وشطب حقنا الأبدي في قدس الأقداس.

ومع ذلك مات وشيَّع ودفن مثل أي من الزعماء التاريخيين، وكان العالم قاطبة، يتحدث عن نعيه وكأنه يتحدث عن أهم رجالات القرن المنصرم الى جانب نلسون مانديلا، وفيديل كاسترو، كما تحدث من قبل عن المهاتما غاندي، ونهرو، وماوتسي تونغ ...

 الرئيس الشهيد ياسرعرفات، وكما يجمع المراقبين والمحللين السياسيين، أبوالواقعية الوطنية الفلسطينية، وصاحب النهج البراغماتي الواقف على قدميه، الهارب من الاختناق، وفاتح الفضاءات السياسية في الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، المتمتع بدينامو نشيط، مغروز ومزروع في العقل والقلب، صاحب القدرة الفائقة على توليد القوة من الضعف لتحدّي المستحيل، فنبعت من بين احساساته المختفية عن عيون البشر.

 تلك هي الكارزماتية التي جمعت من حوله كل الشعب الفلسطيني ممن اتفق أو اختلف معه. وفي مناوراته في دوائر وفراغات ودهاليز السياسة العربية ومجاريها العميقة التي سار الشهيد الرئيس ياسرعرفات على التضاد منها بالرغم من المسايرة الظاهرية، وتجنب حالات التصادم معها، فكان وسطياً، يقيم مسافة مع معظم ما يحيط به من الألوان الايديولوجية، وكان مناوراً ماهراً، أبدع ومن موقع المنطق في سياسته الخارجية مع " كبار الشياطين " من اللاعبين في حلبة السياسة العالمية، فأبدع في سياساته الخارجية مفهوم " لعم " الذي لم يروق للعديد من الدوغمائيين من " أساطين التنظير اللفظي "، فجمع بين الرفض والقبول لينرك الفضاءات مفتوحة دون اختناق أمام العمل الوطني الفلسطيني، فرفض التطرف في السياسة لصالح نزعة وسطية ومرونة في التكتيك السياسي وفي التلاقي مع القوى الاخرى من أجل نسج التحالفات في عملية يتناغم فيها ما هو تكتيكي وسياسي على ما هو استراتيجي وايديولوجي، وإن كان يتخللهما خيط رفيع، فأكتسب بجدارة صفة القائد " الأكثراعتدالاً، والأرجح عقلاً، والأكثر سعياً لوقف التدهور، والأكثر بحثاً عن حلول ".

 الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني في الزمن المعاصر، رمز الوطنية الفلسطينية التي نهضت قبل وبعد الفاتح من كانون الثاني / يناير 1965 على يديه وعلى يد الصف العريض من رعيل مختلف قوى الثورة الفلسطينية من بين ركام النكبة، ورماد الهزائم، فرصف طريق العودة الى فلسطين مع قوافل عشرات الآلاف من الكوادر من الشباب والشابات من حملة البيارق والبنادق، وبدموع اليتامى والثكالى والأرامل.

" الناسك الزاهد ـ وشيطان السياسة وفن البقاء المشروع " رئيس فلسطين الشرعي الأول والمنتخب منذ النكبة. ونتيجة ولعه بالجانب المضىء من التاريخ العربي الاسلامي والمسيحي، وبتسامح الفاروق عمر، صنع قانون المحبة والتسامح داخل حركة فتح وفي الساحة الفلسطينية .

حامي الحديقة الفلسطينية التي أرادها مفتوحة للجميع " لعل أشواكها الضارة تتحول الى ورود ورياحين عطرة، أو تندثر رماداً تذروه الرياح "، بينما راوح آخرون من " صانعي الكلام المجاني " مكانهم عند حدود الأفق الضيق لرؤيتهم الموهومة، بل وتراجعوا نحو التقوقع والاختناق السياسي، والتنظيمي الضيق.

 فكما جاء استثنائياً بعيداً عن المنطق الانقلابي بالدبابات أو على صهوة الحصان الأبيض، رحل رحيل الاستثنائيين، فازداد تألقاً في مماته الاستشهادي مع بريق القضية النبيلة التي رفع رايتها، فوجدت " فرنسا الديغولية العظمى " ورئيسها جاك شيراك، نفسها أمام التزامات السياسة والعدالة … والأخلاق، فداعبت فرنسا أشد الآوتار حساسية في الوجدان الوطني الفلسطيني الجريح، وأتكأ ياسرعرفات على أكف ثلة من الجنود الفرنسيين، وتلك هي المرة الأولى التي يحمل فيها جثمان زعيم أو رئيس غير فرنسي، وقرأ الفلسطينيون هذا الكرم الوطني الفرنسي كما لو أنه تضميد لجراحهم، فعزفت موسيقى الجيش الفرنسي النشيد الوطني الفرنسي (المارسيليز)، والنشيد الوطني الفلسطيني، نشيد المقاوم الفدائي :

 

فدائي يا أرضي، يا أرض الجدود …

فدائي ياشعبي، ياشعب الخلود …

صعدت الجبال، وخضت النضال، قهرت المحال، حطمت القيود …

بعصف الرياح، ونار السلاح، واصرار شعبي، على خوض الكفاح …

فلسطين داري، فلسطين ناري، فلسطين ثاري وأرض الجدود …

 

فأطل الشهيد ياسرعرفات من الساحة الأوربية الغربية عبر عاصمة الأنوار الباريسية، على العالم بأسره، حاملاً وهو في نعشه راية فلسطين، والمقاومة المشروعة لشعب " مقهور " وقع ومازال تحت الظلم التاريخي البشع.

في كل الأحوال، هو من طينة البشر، بعيداً عن التقديس وحدوده، لذلك فان الرئيس الشهيد ياسرعرفات، يتحمل الكثير من شذرات وتراجعات الوضع الفلسطيني، وتالياً مسلسل تراجيديا الحالة الفلسطينية، حيث الترهل والمحسوبية و" العطالة الذاتية " التي كمنت طويلاً داخل المؤسسات الفلسطينية " الغائبة ـ الحاضرة "، وتدافع " شرائح الفريسين " من " بعض ضاربي الطبول ونافخي المزامير عند السلاطين وأشباههم " الذين " يتكاثرون كالطحالب اللزجة في تفلتاتها في المياه الراكدة "، وحراكهم داخل البيت الفلسطيني وفي عموم قوى الساحة الفلسطينية، على حساب الصفوف الطويلة والعريضة من أبناء المقاومة والانتفاضة. لهذا لابد للفلسطينيين أن يقولوا بأن البديل الفردي والمؤسساتي يمر عبر الوريث الديمقراطي، الذي يضمن مشاركة الجميع في صياغة القرار، وتوجيه، وادارة دفة السفينة الفلسطينية. وعبر اعادة بناء المؤسسات الوطنية الفلسطينية في اطار منظمة التحرير الواحدة الموحدة، وليس الاتيان برجلاً آخر دون المرور عبر صندوق الاقتراع. فالحيثيات كلها قد اختلفت، وظاهرة ياسرعرفات لا تقبل التكرار، والشعب الفلسطيني لن يقبل الا بأوراق صندوق الانتخابات النـزيهة ممراً لقيادة جديدة ومؤتمنة. وفي هذا السياق، فان التيار الاسلامي الفلسطيني بثقله وحضوره المؤثر، مدعو من أجل الانضمام الى منظمة التحرير الفلسطينية، عبر الحوار الوطني  الشفاف والشامل، وتحت سقف برنامج ائتلافي يتوافق عليه الجميع.

 نحن، ومن موقع الاجتهاد في البحث الموضوعي، لانطنب في المديح، ولاتذهب لاضفاء صفات الرؤية العبقرية على الشهيد الرئيس ياسرعرفات، ولاندعو الى وضعه مقام رؤية الزعماء الشعبويين الذين عبأوا الشعب الفلسطيني بشكل عاطفي فقط. فهو في عدم إنتمائه الى أي من هاتين الرؤيتين ما يؤكد باعتباره سمة نتاج طبيعي للقضية الفلسطينية بكل تعقيداتها وفرادتها، لكنه حفرعلى أخاديد لوحتها أسلوبه الخاص. ومع إتساع الاهتمام بالقضية التي حمل رايتها، وكثرة طوافه بهذه الراية في الساحات وميادين الفعل الدولية، حظي في حياته بالتقويم ونال بنموذجه القيادي الفريد الحضور المرموق.

ومن هنا، نذكر الشهيد ياسرعرفات، ونتكلم بلغة السياسة الراقية، أحببناه أم لم نحبه، اتفقنا أم اختلفنا معه، شئنا أم أبينا. ونقول أن لجواده أن يكبو قليلاً، حيث من يزرع يحصد، وجواده بصهيله يبقى لينهض من جديد على أكتاف الأمناء من رواد ومتابعي الدرب والطريق لنصل الى " حلمنا المحاصر " نحو " فلسطين وطننا الأزلي الذي لاوطن لنا سواه ". فأن له ان يستريح، وهو الذي شغل العالم كفاحاً ورصاصاً وحجارةً وأغصاناً من الزيتون. فصارت كوفيته رمزية وفولكلورية، ودليلاً نحو فلسطين. حتى في شهادته وانتقاله الى العالم الأبدي، ظللت شاغل دنيا السياسة الفلسطينية، وكذا بقى بعد رحيله، فقد ترك حركة وطنية ما تزال قائمة وشعباً مفعماً بالعطاء يتقدم قياداته (منها الصالحة ومنها الطالحة) في التضحية والالتزام والخلق الرفيع، وكينونة وطنية ما تزال واقفة، وعيونها شاخصة إلى أمام.