الدعوة التي أطلقها " محمود عباس" قبل أيام عقب إجتماع اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية "للتهدئة" في القدس، كشفت مجدداً عن حجم الإنهيار الوطني الذي تعيشه القيادة الفلسطينية، وإنحسار خياراتها الوطنية في مواجهة صلف الإحتلال وجرائمه التي بلغت مستويات غير مسبوقة في تاريخ القضية الوطنية، جرائم متواصلة دفعت بآلاف الشبّان الفلسطينيين من القدس وغيرها لأخذ زمام المبادرة والتصدي بشجاعة معهودة خلقت واقع مختلف عمّا تريده إسرائيل والسلطة وأمريكا الذين سارعوا لعقد إجتماعات التهدئة في العاصمة الأردنية عمّان.
المواجهات بين الفلسطينيين وزعران المستوطنين وغلاة متطرفيهم أصبحت مشهد يومي يتسع ويأخذ مساحات وإبداعات فردية قد تتحول إلى ظاهرة، وضعت الإحتلال الإسرائيلي أمام حالة من التخبط والعشوائية جرى التعبير عنها في العديد من القرارات، وظهرت بعضها مثل "النكتة" على غرار " منع إستيراد السكاكين" أو تشكيل "الحراسة المدنية" وإقامة المزيد من الحواجز العسكرية والقيام بإجراءات عنصرية في مدينة القدس وغيرها، تشبه إلى حد كبير الحالة التي عاشتها إسرائيل في بدايات الإنتفاضة الشعبية الأولى" إنتفاضة الحجارة" وتكررت خلال الزحف الفلسطيني على الحدود ومناطق التماس في "ذكرى النكبة" مايو 2011.
إسرائيل دولة قوية وبإمكانها أن تذبح غزة بالطائرات والصواريخ وتوقع آلاف الضحايا من المدنيين الفلسطينيين في حال كانت المواجهة عسكرية، كما حدث أكثر من مرّة في حربها على قطاع غزة، ولكنها ضعيفة جداً أمام التحركات الشعبية كالتي تحصل حالياً في مناطق متعددة من الضفة والقدس، فهي تعجز عن إستخدام آلة بطشها في مواجهة شبّان يلقون بالحجارة و"المولتوف" على قواتها المنتشرة في الضفة والقدس وعلى مسافة أمتار في منزل "محمود عباس" ومقر "القيادة الفلسطينية"، وتدرك أن ثمن بطشها مكلف على المستوى الدولي وأن جرائمها ستوقظ ملايين المتضامنين مع الشعب الفلسطيني حتى في ظل حالة الوهن العربي والتواطؤ الرسمي العالمي مع جرائمها.
سواء كانت إنتفاضة شعبية ثالثة أو هبّة جماهيرية طارئة رداً على جرائم الإحتلال، فهذا حراك فلسطيني يؤكد إستحالة التعايش مع الإحتلال وعدوانيته، مهما بلغت درجة يقظة رئيس السلطة وإسرائيل وحرصهما على "الهدوء" و"التنسيق الأمني" وتوفير بيئة آمنة للمستوطنين، ومهما إشتدت وتيرة القمع والتصعيد ومنع التظاهرات وأشكال الإحتجاج الأخرى.
الشعب الفلسطيني على إمتداد تواجده لم يسقط حلم الحرية والإستقلال، ولم تعد تنطلي عليه أكذوبة المفاوضات اللامتناهية في ظل قيادة عاجزة معدومة الخيارات تعيش أكثر من حالة إنقسام، طموحها الوحيد الحفاظ على مواقعها في ما تبقى من شظايا نظامها السياسي، تبحث عن إنتصارات وهمية تغطي على واقع الإحتلال وتستكين لممارساته التي طالت حملة بطاقات ال"VIP" ورئيسهم الذي يشتغل على إضعاف وتفتيت الحركة السياسية الفلسطينية وإحكام قبضته على مفاصل الحكم ومعاقبة معارضيه.
منذ زمن غادرت السلطة الفلسطينية موقعها المنحاز إلى الشعب، بل غادرت موقعها المحايد ما بين الشعب والإحتلال، لتصبح في زمن رئيسها "عبّاس" في موقع تهديد لمصالح الشعب وحقه في ممارسة كفاحه الوطني المناهض للإحتلال، ما جرى في غزة خلال الحرب العدوانية، وما يجري في القدس من مواجهات والمحاولات المتواصلة للجم أي إنتفاضة ضد الإحتلال برهان ذلك، ولم يعد مخجلاً للرئيس "عباس" إدانة أي فعل مقاوم سواء كان فردي أم جماعي، لم يعد مخجلاً له إستمرار الرهان على مفاوضات بحاضنة أمريكية مع إداركه ويقينه بفشل هذا المسار وهذه الطريقة بعد أن أحدثت تآكل سياسي تدريجي على الموقف الوطني وصولاً للقبول بما كان يعتبر خيانة وطنية !.
الإنتفاضة الشعبية سواء كانت طارئة أو دائمة فهي تقرع "جدران الخزان" وتذكر الجميع أن الشعب الفلسطيني هنا، حيّ ينشد الحياة والمستقبل والحرية، وقضيتة الوطنية حاضرة بقوة مهما بلغت درجة اليأس والإحباط الذي حاول البعض فرضهما لتمرير سياسات أكل عليها الدهر وشرب، وتذكرهم أن "حتمية التاريخ إنتصار الشعوب المضطهدة" وأن التعايش مع الإحتلال ومستوطنية أمر لا يمكن القبول في ظل رشوة السلطة التي أرادها المجتمع الدولي والمانحون، وأن الطارئ سيصبح دائم، والهبًة ستشرق هبّات وفعل يومي يطيح بالجلادين وهياكلهم وشركات الحراسة والتوظيف التي أريد منها تزييف الواقع الفلسطيني ومنح الإحتلال فرصة إستمرار فرض سيطرته على الشعب والأرض والمقدسات الفلسطينية.