د.هشام صدقي ابويونس
كاتب ومحلل سياسي
عضو الأمانة العامة لشبكة كتاب الرأي العرب
أول نظرية اقتصادية تعلمتها منذ عقود كانت ""دعه يعمل دعه يمر" كانت للباحث الاقتصادي الاسكتلندي آدم سميث. كان شعار فحواه بشكل عام تقليص تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية إلى أضيق ما يمكن بهدف الدفع بعجلة التنمية نحو الإيجاب, و منه تحرير التعاملات والعلاقات الاقتصادية على أوسع نطاق ممكن فتصبح بذلك الأسواق حرة تلقائية تحكم نفسها بنفسها.كانت في سنة أول اقتصاد ، وقتها ضحكت من اسم هذه النظرية ومرت سنوات وسنوات فضحكت علي نفسي لأنه " تشيأ " الناس, فأصبحت علاقاتهم مع أنفسهم و ذويهم تحكمها الأشياء وكمها ونوعها. فظهرت أساليب حياة تحكمها السرعة, وأنماط عيش جديدة لا تكترث بكائن الطبيعة الذي خلقنا معه وفيه إذ تستحيل حياتنا دون وجوده. هذه هي "حضارة " السرعة والاستهلاك والنفعية والأنانية,فالزمن تغير وكذلك الوقت إلا انه لازال يعمل ولازال يمر ولكنه علي من هذه المره ؟؟؟؟؟؟؟؟
فنشاء في عالمنا العربي أثرياء النكبات والحروب والمعارك ليسوا هم فقط أولئك الذين تتضخم حساباتهم البنكية خلال الحرب أو بعدها، والذين يتوقعهم العقل أحياناً بأنهم أصحاب رؤوس الأموال وكبار التجار ورجال الأعمال.بل أيضاً هم الذين تنتفخ أسماؤهم، والذين يصنعون مجداً زائفاً ومسروقاً علي حساب الفقراء!
ويعملون ويمرون علي جثث الناس وعلي خراب بيوتهم .ويبزغ نجم هؤلاء من كافة طبقات المجتمع، كبعض السياسيين والشعراء والمنظّرين وأصحاب الفتاوى والصحفيين، والذين يعكفون بعد أن تسكت المدافع والصواريخ والطيارات وهدير الدبابات على تحصيل الثمن مباشرة من الشارع المنكوب والدمار وشلال الدم النازف علي الرصيف ؛ وتضاف إليهم شريحة أخرى وهي طبقة "أقارب الضحايا!"
فتجارة المواطن بالنسبة لهم كالتاجر الذي يبيع ويشتري سلعة فالتجارة بالمشروع الوطني أو الديني، أو بالفقراء، أو حتى بمأساة القتلى، هي التجارة الأكثر رواجاً خلال الحروب، ولا تكلّف صاحبها الكثير، بل إنّها دون رأسمال حقيقي، سوى الكلام.. ثم الكثير من الكلام. الكلام الكاذب الذي يجري إنتاجه بشكل منظم من قصائد الشعر التي يقطر منها الدم وتدغدغ العواطف رغم أنها تكتب في مكان مكيف ونظيف وبعيداً عن أصوات المدافع والصواريخ، الى شعارات الدعم المكتظة برفع اليد والأصابع والصراخ والتهديد والوعيد، الى فتاوى سريعة تطالب بضرورة الموت حالاً.
وفي ذروة الحرب، وسقوط البيوت علي ساكنيها وعلى رؤوس الأطفال البريئة، يعلو صوت هؤلاء "المستثمرين" على صوت العقل والحكمة، فيعملون ويمرون فيتخوفون دائماً من مغبّة انتهاء المعركة، قبل اكتمال الأرباح على نحوٍ معقول؛ كأن ينجز البعض ديوانه الطافح بالحماسة، أو يحرز آخر رتبة أعلى في الحزب، أو يصبح مصورً ما ونجماً لأنه فاز بجائزةٍ ضخمة عن صورة العجوز المبتورة قدماه وهو يحتضر!
لأنَّ الحرب هي على نحوٍ ما مصدر رزق أيضاً!
والضحايا الذين انتهى دورهم المأساوي، وصعدوا الى السماء بكامل لحمهم أو بدونه، هم وقود وفير يتسابق المستثمرون لاستخدامه؛ والمستثمرون هم السياسي والصحفي والشاعر والمصور وأقرباء من طرف العائلة سيتحدثون فيما بعد -في كل الملتقيات والمحافل- بصفتهم من ذوي الفقيد !
أمَّا العقل فهو مدحورٌ هناك في نهاية المشهد، لا أحد يريد أن يراه، ولا أحد يصغي إليه، لأن ذلك سيعود بالخسارة على جميع هؤلاء، وسيقلّص الأرباح والفوائد !
العقل الذي يرى أنك تستطيع أن تعيش فداء لبلادك أيضاً، وليس أن تموت فقط. لكنَّ أثرياء الحرب يمدّونها دائماً بكل أسباب "الصمود"، فكلّما صار عدد الضحايا أكبر اكتنزت المأساة، وصارت مؤثرةً أكثر!
وكلَّما ازداد قتلاها ازداد عدد نجومها، ومنظّريها، الذين يوزّعون صكوك غفران وشهادات وطنية، من مكاتبهم الفاخرة المكيفة. لكنَّه بعد أن انقشعت الغيمة السوداء الهائلة، وتكشَّف المسرح عن كل هذا الدمار، لم ينجُ من الحرب أحد، سوى بضعة شعراء، وسياسيين، وإعلاميين ومصور اخذ صورة لطفلة بدون أحشاء لازالت تحتضر ، وأشخاص أذكياء جداً وضعوا أرباحهم في جيوبهم وذهبوا فوراً يخطّطون للحرب المقبلة!
فنظرية "دعة يعمل دعة يمر" طبقوها بشكل مختلف هذه المرة ولو علم آدم سميث بما ستؤول أليها نظريته لما نشرها في دراسة سوق المال او فضل الانتحار .