حلت الذكرى الخامسة والعشرين لاتفاقية حقوق الطفل الدولية التي أقرتها الأمم المتحدة يوم 20 تشرين الثاني عام 1989، والتي رسخت مبادئا عالمية تتعلق بحقوق الأطفال، من رعاية وحماية قانونية، وتحسين ظروف معيشتهم في كل بلد، ومنع تعرضهم للإذلال والعنف والاستغلال والتمييز والمعاملة القاسية.
انضمت الى الاتفاقية 194 دولة في العالم، ومن المفترض أن تتضمن هذه الاتفاقية في كافة التشريعات والقوانين المحلية للدول الأعضاء فيها، على قاعدة أن لكل طفل حقا أصيلا في الحياة، وأنه لا يحرم أي طفل من حريته بصورة غير قانونية وتعسفية، ويجب أن لا يجري اعتقال الأطفال أو احتجازهم أو سجنهم وفقا للقانون، ولا يجوز ممارسته إلا كملجأ أخير ولأقصر فترة زمنية ممكنة.
ونصت اتفاقية حقوق الطفل على معاملة كل طفل محروم من حريته بإنسانية، واحترام للكرامة المتأصلة في الإنسان، وبطريقة تراعي احتياجات الأشخاص الذين بلغوا سنة، وحقه في الحصول على مساعدة قانونية، واحترام قواعد القانون الدولي الإنساني ذات الصلة بمعاملة الأطفال.
إن المسافة واسعة بين 54 مادة تضمنتها اتفاقية حقوق الطفل، وبين واقع أطفال فلسطين الرازحين تحت نير الاحتلال وفي سجونه ومعسكراته، وعلى الرغم من أن إسرائيل عضو في هذه الاتفاقية، فإنها لم تلتزم بها، بل قلبت كل ما فيها، وأعلنت دولة إسرائيل على لسان وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي: انه لا حصانة لأطفال فلسطين، وتحول الأطفال في المفهوم الإسرائيلي إلى مشروع مخربين، وقنابل موقوته، يجوز قتلهم، وخطفهم ، وحرقهم، واعتقالهم وتعذيبهم، وملاحقتهم.
اعتقلت سلطات الاحتلال ما يزيد عن عشرة آلاف طفل قاصر منذ عام 2000، وتصاعدت حملة الاعتقالات منذ حزيران الماضي، حيث انه من مجموع ثلاثة آلاف معتقل جديد ، بلغت نسبة الأطفال 43% منهم، واغلبهم من محافظة القدس، وقد أصبح اعتقال الأطفال وملاحقتهم هدفا لسياسة رسمية وممنهجة من قبل حكومة إسرائيل.
وتشير الإجراءات القاسية المتخذة بحق الأطفال الاسرى، أن الهدف الإسرائيلي اكبر من مجرد الحفاظ على ما يسمى الأمن، أو منع رشق الحجارة تجاه الجنود والمستوطنين، أو مجرد انتزاع معلومات من الأطفال، بل هو تدمير وسحق الأجيال الفلسطينية الفتية جيلا بعد جيل، وتحطيم أرواحهم ومستقبلهم وأحلامهم في مهدها.
الحملة المسعورة والمستمرة باعتقال القاصرين وترك جروح في قلبوهم وشخصيتهم وهويتهم البريئة، تستهدف المجتمع الفلسطيني وبنيته الاجتماعية والأسرية، وتحويل الأطفال إلى كائنات يائسة وعاجزة ومحبطة وحائرة، وعبئا على نفسها وعائلتها ومجتمعها، وذلك من خلال ما يتعرضون له من ممارسات تعسفية خطيرة خلال اعتقالهم واستجوابهم.
الباحثون الاختصاصيون الذين عملوا مع الأطفال الاسرى المحررين، وصلوا إلى نتائج صعبة مفادها أن الأطفال الاسرى لا يتسمون، يمرون في حالات اكتئاب وانزواء وانسحاب من المدرسية، يعيشون حالات الفزع والخوف وأعراض صحية ونفسية ، فهم مصدومون، محطمون، عاشوا تجربة مع جنود ومحققين لا يعرفون الرحمة، وكأنه ليس عندهم أطفال، آليون وفاسدون وناقمون يكرهون الحياة.
هذا الولد من القدس، اعتقلوه الساعة الثالثة فجرا، دعسوا عليه ببساطيرهم وأرجلهم وهو ملقى على أرضية الجيب العسكري، مقيدا ومعصوبا، انهال الجنود عليه بالضرب وعلى كافة أنحاء جسمه، يتكوم الطفل تحت أقدامهم ، يتألم ويصرخ ، ينزف من رأسه ووجهه، ينادي على أمه وأبيه ومعلمه، فلا يجد سوى صدى الصفعات والركلات في رحلة الاعتقال الموحشة.
هذا الولد من القدس، تعثر بجنود ومتطرفين يقتحمون المسجد الأقصى، وتعثر بجدار ومستوطنات وحواجز عسكرية، وتعثر بشنق الشهيد الرموني، وخطف وحرق الطفل محمد ابو خضير، مقاعد صفه في المدرسة فارغة، آليات عسكرية تجوب شوارع وبلدات القدس، هدم منازل ومطاردات، فألقى هذا الولد حجرا في وجه العتمة قبل الدرس الصباحي، وصعد على سلم نشيد طفولته عاليا كالصلاة.
هذا الولد من القدس، مشبوح على كرسي صغير ساعات طويلة في غرفة 4 بالمسكوبية، عاريا، مقيدا من يديه ورجليه، على رأسه كيس اسود، وقد تفنن المحققون في تعذيبه، تارة بالضرب والشتم والتهديد والترهيب ، وتارة بإطفاء السجائر المشتعلة في ذراعه الصغيرة، وتارة بتشغيل الكهرباء في جسده، يرتجف الصغير، يقع على الأرض مغشيا عليه، لا يرى سوى فراشة تسبح في دمه، تبحث عن حديقة أحلامه، وتقف فوق عينيه كدمعة ساخنة.
سأل المحامي قاضي محكمة عوفر العسكرية، ألا ترى أن الذي يمثل امامك طفل لم يبلغ من العمر سوى الخامسة عشر؟ انتزع الاعتراف منه بالتعذيب وبالقوة، فرد عليه القاضي ساخرا: انه حسب القانون الإسرائيلي لم يعد طفلا منذ الآن.
اتفاقية حقوق الطفل لم تتحرك، لم تستطيع الأمم المتحدة حتى الآن أن تحمى نصوصها وقواعدها، تصطدم بدولة دينية فاسدة أخلاقيا وقانونيا، تفرض اقامات منزلية على الأطفال وغرامات وإبعاد عن مناطق سكناهم، وتشرع قوانين جائرة لزيادة الأحكام بحق الأطفال، ولم تستطع خلق مساحة لهم للعب واللهو ، ونزع الكوابيس من أحلامهم وهواجسهم المضطربة.