الأرقام الفلكية

بقلم: أسامه الفرا

لطالما شكلت النجاحات التي حققتها بعض الدول نماذجاً لأحلام الشعوب المستضعفة في رحلة إنعتاقها من الفقر والجهل، ولعل النموذج السنغافوري هو الأكثر حضوراً في هذا المضمار، لما يمثله من تطور مذهل إستطاع الوصول إليه في سنوات قليلة، والغرب لطالما استحضر تجربة سنغافورة ووضع صورتها أمام الشعوب المتمردة على واقعها، لا شك أن تجربة سنغافورة تحمل الكثير من التميز والإبداع وفرضت إحترامها على الجميع، والأنظمة التي تحلم بتطوير حياة مواطنيها لا بد وأن تطلع على تجربتها وتنهل الكثير منها، لكن التجربة الأكثر إثارة وتأثيراً في عالمنا اليوم هي تجربة العملاق الصيني.

أهمية التجربة الصينية لا تكمن في تفاصيل صغيرة يمكن للغير نقلها إلى مجتمعاتهم، بل فيما تحمله التجربة من ملامح زلزال يضرب بإرتداداته مكونات النظام العالمي برمته، يبدو أن الصين ماضية في تحقيق الأرقام الفلكية في كل شيء، بدءاً من علبة الكبريت وإنتهاءاً بالصناعات الثقيلة في الوزن والقيمة والنفوذ، كانت الصين قد وضعت عام 2006 في أحد معارضها المتعلقة بالطيران نموذجاً لطائرة بدون طيار أطلقت عليها إسم "السيف المظلم"، بعدها غاب سيفها المظلم عن الإعلام مما دفع الكثير للإعتقاد بأنها تخلت عن حلمها، لكنه عاد مؤخرا للظهور عبر موقع تلفزيونها المركزي، مما يوحي بأنه بات أو على الأقل اقترب ليكون حقيقة واقعة، أهمية مشروع السيف المظلم لا تتوقف عند الإمكانيات التي تتمتع بها الطائرة وبخاصة قدرتها على الاختفاء من جهة وتفوقعها على سرعة الصوت من جهة ثانية، بل في ما يحمله المشروع من اقتحام الصين بقوة لصناعة ظل الغرب محتكراً لها، ومن خلالها فرض سطوته على العالم.

في محاولة لتفسير تراجع النفوذ المصري في القارة الفريقية، يقول أحمد ابو الغيط وزير الخارجية المصري السابق أن الصين تستثمر ما يفوق المائة مليار دولار سنوياً في أفريقيا فيما الانفاق المصري في أفريقيا لا يتجاوز العشرة ملايين دولار، النفوذ في السياسة الخارجية يرتبط بالبعد الإقتصادي إرتباطه بالقوة المسلحة، ولا شك أن الصين التي غزت العالم إقتصادياً في طريقها لفعل الشيء ذاته في صناعة الأسلحة، إن فعلت ذلك ولا يوجد ما يكبح جماع أحلامها في الوصول إلى الأرقام الفلكية في كل شيئ بما فيها صناعة الأسلحة، فالمؤكد أن صوت الفيتو الذي تتمتع به في مجلس الأمن سيكون هو الصوت الأقوى بين الدائم والمؤقت فيه.

مع إنهيار الاتحاد السوفيتي ومعه دول المنظومة الإشتراكية على شاكلة سقوط قطع الدومينو، إعتقد الغرب أنه حقق إنتصاره المدوي على غريمه التقليدي، وأن العالم سيهرول إلى سيده الأوحد "أمريكا" لإقتفاء أثره ونيل رضاه، لكن الواضح أن العملاق الصيني خرج من قمقمه ولن يكون بمقدور النظام العالمي "الجديد" إعادته إليه مرة أخرى، ولن يكون بمقدوره في الوقت ذاته ترويض دولة الأرقام الفلكية.