الحشود البشرية وقضايا الوطن.. أسئلة الواقع والأثر

بقلم: إبراهيم عمر المصري

هذه جولة في خواطر نفسي عن واقع الاحتفال بذكرى انطلاقات الأحزاب وأثرها، أعرضها -في ذكرى الانتفاضة الأولى- على نحو يساعد في إعادة صياغتها بما يخدم واجب التحرر والانعتاق.

(1) لا تصلحوا الكون وحدكم، ووحدكم لن تصلحوه

تحفل ساحتنا الفلسطينية بعدد من المهرجانات السنوية الحاشدة بعدد تنظيماتها وكياناتها الحزبية، وقد شاءت الأقدار أن أغلبيتها –أقصد الكبرى منها- تدور حول شهر ديسمبر من كل عام.. فيه، أو قبله بقليل، أو بعده بقليل.

ومن عجيبٍ، أن هذا الشهر هو في نهاية العام الذي يتسم أصلا بالمراجعات التقييمية والتقويمية.. إلا أنه –برأيي- لم تكن مهرجانات التنظيمات والكيانات الحزبية غالبا -فيما عاصرته منها- ذا دلالات تحولات استراتيجية على مسار التحرير الوطني، إنما تنتقل فيها عدوى نوايا الحزبية الضيقة إلى الصفوف والقواعد؛ فتضيق بحبوحة الوطن بضيق أفق تنظيماته وكياناته الحزبية !، وبالتالي في الممارسات والمعايشات.

إن قبح دواخلنا تعمينا أحيانا عن جمال الوطن بكل ألوانه وطبقاته.. فلا يجب بحال من الأحوال أن نختزلها بقدر ما نستفزها بدفع كوامن الخير فيها انتماء وتحررا وبناء؛ فما الإنسان إلا ابنَ بيئةٍ أثّرت فيه واختياراته، فيُحمَل هو على عذر لوثة زمانه ومكانه وحاله، ولا نُحمَل نحن على تقصيرنا وتفريطنا.

فما أثر مراجعاتنا الدورية (إن كانت) على تصويب البوصلة؟..

وكم غلّبنا أولويات الوحدة والتحرر على استدعاء عصبيات الفرقة والأيدولوجيا؟..

(2) اليوم الوطني في ميزان الوطن

لقد درج في عرفنا التنظيمي الفلسطيني أن أحد أهم الفعاليات الموسمية السنوية هو العمل الكؤود والدؤوب لحشد أكبر عدد ممكن من الناس في بقعة ما وفي لحظة ما.

هذا (اليوم المشهود!) الذي تَكبَح –دوما- فيه عجلة المسير التحرري حركتها بين مَنظَر وناظر!، يلخص باختصار لمتابعي الحالة الفلسطينية حالة من شدة الاحتراب التنظيمي بين فصائل الوطن وأجندته المتباينة. حيث يجتهد هذا الفصيل بحشد وتسخير كل طاقاته وإمكانياته لإنجاح هذا (اليوم الوطني الكبير!).

إن هذه الطاقات والإمكانيات المبذولة والمحشودة هي في أعراف علماء التنمية والإدارة أموال مهدرة ما لم تتناسب ونبل الأهداف المرسومة. إن مجموع الأوقات والجهود المبذولة هي في حقيقتها تكاليف مالية غير مباشرة تضاف إلى تلكم الأموال المصروفة بشكل مباشر، وفي مجموعها على مدار (الأيام الوطنية!) خلال سنيّ التحرر أرقام مهولة تكاد تضعنا على أول الطريق الذي يؤدي بنا إلى امتلاك مساحة استقلالية في عالم الفضاء.

ثم وماذا بعد؟!..

نعم، تجود هذه الحركة بالخير على بعض أصحاب الصناعات والحرف البسيطة أو الموسمية، كما تتحرك فيها عواطف الأنصار فخارا وافتخارا.. لكنها تثقل كاهل الوطن الذي يبكي دما وهو يرى جموعه تحتشد لمجرد (رسالة وجود!)، فيما ترفعه وترفع عنه بغير ذلك.

ويبقى -دوما- السؤال الأهم، الذي يكاد يغيب عن أذهان قادة الحشود، بلا إجابة:

كم هو حجم حضور الوطن في فقرات (اليوم الوطني) وحشوده؟..

وهل يمكن تحقيق ذات الهدف بوسائل أنجع؟..

(3) التحرير.. المسار والمسيرة

إنه من البداهة بمكان أن تنبري في الشعوب الحية أحرارها لنجدتها إذا داهمتها الخطوب، وأي خطب أعظم على الأمة اليوم من اغتصاب قداستها الدينية ومكانتها الحضارية!.

وهذه فلسطين.. جاد رجالها من أمتها لها على مدار التاريخ بأعز ما يملكون نصرة ونجدة. فكان همّ التحرير أَرَق الليل إعدادا.. وجهد النهار إنجازا.

إن صناعة الحدث ومراكمة الفعل هما مهارات استراتيجية ضرورية في طريق التغيير الحضاري. وبقدر وضوح الرؤية ودقة الهدف فإن حجم العوارض –مهما كثرت أو ثقلت- لن تثني أحدا من لذة التعب فيما تبدو للرائي ملامح الفوز الأكيد.

وإذ أُذكّر من نافلة القول أن العدو جاثم على أرضنا ويتمدد.. فما يمكن الجزم به اليوم أن أي جهد لا يتحرك بنا بوضوح نحو هدف اقتلاعه فهو يؤخرنا ولا شك، كما أن أي عمل لا يتضمن مؤشرات انتهاء فهو يثقلنا ولا بد، وأما نشوة المكاسب الآنية خلال المسير التحرري ما كانت لتثني عاقلا عن أهدافه الكبرى.

فهل مسار تحرير الوطن اليوم واضح في أذهان عمّاله وأنصاره؟..

وهل مسيرة التحرير جليّة ضمن حسابات الوقت والجهد والتكلفة؟..

(4) الحشود.. مأمن وجواز أم لحظات نشاز؟!

إن واحدة من أهم الأولويات الميدانية التي تراود التنظيمات والكيانات الحزبية هو أعداد منتسبيها ومحبيها، فجعلت لذلك دوائر وخططا وعاملين يجهدون في تنسيب أكبر عدد ممكن من الناس. ولا أسوق هذا عيبا بقدر ما أعتبره وعيا بأهمية الحشود في تقرير مصائر المدافعة باختلاف أنواعها (دينية، سياسية، إدارية...الخ)؛ فإسناد الحق بالجموع واجب.

الأهم عندي هو بقدر هذا الإيمان بأهمية الحشود فإن تصديقه يكون بمدى وحجم الاستفادة من هذه الجموع في إطلاق ممكناتها وتوجيهها فيما يحقق النهضة والتنمية الحقيقية للمجتمع؛ حيث لا يجب أن تكون هذه الجموع طاقات معطلة داخل التنظيمات والكيانات الحزبية.

إن إطالة الأمد بعدم الاستفادة من هذه الطاقات يقتلها؛ فالماء يأسن إن أطال الركودا (كما قيل). وهي ذاتها –أقصد الحشود- قد تكون وبالا ودمارا إن لم تشغلها بالخير شغلتك بالشر.

كما أن محاذير هذه اللقطات التاريخية للحشود خلال المسار التحرري هي كبيرة إذا تمت إساءة توجيه رسالتها. حيث يجب أن ندرك جيدا أن هذه الجماهير والحشود تمتلك سطوة شديدة على متخذي القرار ما لم يُضبَط قِيادها، ويُحمَى سياجها؛ فكما هي: جَليّة الخبر، عميقة الأثر، مديدة النهَر، منيعة الخطر.. فإنها هي: قصيرة النظر، عجولة الثمر، خَفِيّة الغرر، عظيمة الشرر..

إن ما ينبغي أن ندركه جيدا في هذا المقام..

كم هو حجم كتلة الفعل الحرجة التي نحتاجها لتحقيق الهدف التحرري؟..

وما مدى عمق تأثيرنا وتأثرنا بكتلة التأييد عبر الأدوات المختلفة لتحقيق الهدف التحرري؟..

ويبقى احتفاء فصائلنا يوم الامتحان أجدى وأندى، واحتفالها يوم التحرير أبدى وأرجى..