حياة الفلسطيني أو موته أصبحت تأخذ أشكالا ومفاهيما أخرى, تلك التي لا تتعلق بمتلازمة الحضور والغياب, ولكنها صارت أقرب إلى ارتباطها بالبقاء والهوية, وكأن الحضور تنازل عن معناه في حضرة الشخصية الفلسطينية ليتشكل في إطار الفهم الخاص لهذه الشخصية, فموت الفلسطيني لا يعني الغياب أو توقف مجرى الزمن, فهذا الموت يعيد تشكيل نفسه في وجدان جماعي, يتوالد ويستنسخ أشكال أخرى قادرة على البقاء, وعلى منح هذا الشخصية كل مقومات الهوية والتميز والاستمرارية, وحياة الفلسطيني تعني التماهي مع موت قادم أو مؤجل في مواجهة الآخر (الاحتلال), هذا الآخر الذي يحمل معه محاولات السحق والمحو للوجود الفلسطيني, ولكنه يصدم بأن كل محاولاته المتكررة والمرتكزة على مفاهيمه للحياة والموت تسقط أمام مرتكزات الفلسطيني التي تعيد صياغة لغة تسقط التباين في المعني بين الشئ ونقيضه.
ارتقى الشهيد الوزير / زياد أبو عين (مسئول هيئة مقاومة الجدار والاستيطان), أثناء قيامه بواجبه اليومي في التصدي للعنصرية الإسرائيلية, في أكبر تجسداتها والتي تمثلت بالجدار العنصري وسياسة إقصاء الآخر واستلاب هويته وسرقه أرضه بإقامة مستوطنات, تكون مهمتها الطرد المركزي والمنهجي للسكان الأصليين, وإحلال الدخلاء والطارئين في المكان, في تطبيق لأيديولوجية عنصرية توسعية كولونيالية. ارتقى الشهيد القائد / زياد أبو عين في ظرف تلاحمه الحقيقي مع المقاومين, وتصديه للهجمة الإسرائيلية بيديه العاريتين, ومسلحا بإرادة وقراءة واعية للتاريخ وللفكر الإسرائيلي المتطرف, ليجسد قيمة فلسطينية أخرى وملحمة تتواصل حلقاتها وتمتد لتغطي مرحلة ماضية وحاضرة ومستقبلية, وليكرس مفهوم جديد للمقاومة بالوعي والإرادة, ليضيف هذا المفهوم إلى قاموس المقاومة الفلسطينية قولا وفعلا وشهادة, لتكون المصداقية والعطاء والشجاعة صفات ملازمة للمقاوم الفلسطيني, والتي كم نحن في حاجة لها في مرحلة اتسمت بالضبابية وغياب الرؤى المشتركة والجامعة للكل الفلسطيني.
لقد جسد الشهيد القائد / أبو عين شخصية الإنسان الفلسطيني, تلك الشخصية التي تضافرت في تكوينها عوامل عدة لتثمر الصلابة والقوة والوعي والقدرة على إعادة تكوين المفاهيم بتشكيل لغة جديدة, تمارس التخريب الجميل لمفاهيم مفردات اللغة السابقة, ولتوسم بأنها لغة الشعب الفلسطيني, والذي يخوض معركته في مواجهة أكثر من طرف وآخر, فهناك ميدان المواجهة مع الاحتلال وسياساته العنصرية وأيديولوجيته المتطرفة, وهو مواجهة مع الآخر الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية والتي تشكل الداعم الأساس لإسرائيل, علاوة على رفضها الاعتراف بإنسانية الشعب الفلسطيني وبحضوره على الساحة الدولية, وهناك الآخر القريب وذو الأصول المشتركة المتمثل في الأمة العربية والإسلامية العاجزة عن تشكيل جبهة تكون حائطا أخيرا للشعب الفلسطيني ومصدرا لقوته وثباته, ومن هنا كان لزاما على الشعب الفلسطيني أن يخوض معركته وينسج هويته على حساب الثورة على المفاهيم وتخريب معاني المفردات, لتأتي ملاءمة ومتساوقة مع الحالة الفلسطينية بكل تجلياتها وعبقريتها وإبداعاتها.
منذ العام 1977 والشهيد القائد / زياد أبو عين وهو يخوض الحالة الكفاحية الجديرة بإنسان فلسطيني, يُحارب في وجوده وهويته وكيانه وماضيه وحاضره ومستقبله, فكانت البداية الاعتقال في الولايات المتحدة الأمريكية, ثم إعادة اعتقاله في العام 1979 وليمضي ثلاث سنوات ومن ثم تقوم الولايات المتحدة بتسليمه لإسرائيل بحجة مسئوليته عن عمليات أدت إلى مقتل العشرات من الإسرائيليين, وهي سابقة خطيرة تدلل على مدى تنكر الولايات المتحدة للإنسان الفلسطيني والرفض لوجوده وهويته وإنسانيته, لتحكم إسرائيل على الشهيد القائد / زياد بالسجن مدى الحياة, لتتواصل الفصول وفي العام 1983 رفضت إسرائيل إطلاق سراحه ضمن صفقة مع حركة فتح على الرغم من وصوله إلى مطار اللد في إسرائيل للترحيل إلى القاهرة ومن ثم الجزائر, إلا أن إسرائيل بغياب أخلاقها قامت بعملية غدر وخداع وأعادت اعتقاله من المطار, ليأتي العام 1985 ليشهد صفقة تبادل أخرى وهنا يكون الإصرار على أطلاق سراح القائد الشهيد, ويتم ذلك ويرفض الشهيد العرض له بمغادرة أرض فلسطين, ويصر على البقاء ليتعرض إلى الاعتقالات الإدارية طوال الانتفاضة الفلسطينية 1987 وما تلاها من انتفاضات.
يجسد الشهيد القائد الوزير / زياد أبو عين نموذجا للإنسان الذي يحمل الهم الوطني, وتظل قضاياه وهي شغله الشاغل, وعلى الرغم من توليه العيد من المناصب والتي قد تغري بالركون إلى التاريخ والتغني بأمجاد الماضي واستثمار ذلك, فالشهيد زياد أبو عين يعتبر احد قيادات الثورة الفلسطينية التاريخيين وعضو المجلس الثوري لحركة فتح, وكان يشغل منصب وكيل وزارة الأسرى منذ العام 2003، وقبلها شغل منصب مدير عام هيئة الرقابة العامة المكلفة بمحاربة الفساد وتقييم أداء السلطة الوطنية الفلسطينية، كذلك انتخب رئيسا لرابطة المقاتلين في المحافظات الشمالية وعضو اللجنة الحركية العليا لحركة فتح، ورئيس اتحاد الصناعيين الفلسطينيين ومسئول ملف الرقابة الحركية بحركة فتح والآن ملف الرقابة الحركية بالمجلس الثوري, إن كل هذه المناصب والمسئوليات الإدارية لم تلغ شخصية المقاوم لدى الشهيد / زياد أبو عين, فنزل إلى الميدان وتلاحم مع الجماهير في تصديها للمشروع الإسرائيلي العنصري, هذا التلاحم كان معنويا وعضويا أي تلاحم فكر وممارسة, وهذا الأخير ما ينقصنا, فنحن بحاجة لمن يحملون الفكر ويطبقونه ممارسة, أي لا انفصام بين القول والفعل, فيكفينا عقود عدة من قول يهدم الجبال وهما, وفعلا لا يقوى على زحزحة ذرة تراب.
ارتحل الشهيد القائد الوزير المقاوم / زياد أبو عين, حاملا جسدا أثخنه فعلا صادقا, وعملا ترك بصماته العميقة في الشخصية الفلسطينية, مضيفا ملامح أخرى جديدة للهوية الفلسطينية, في معركتها لإثبات وجودها وانتزاع الاعتراف الكوني بها, ترجل الفارس زياد أبو عين بعد أن كرس لغة جديدة, لغة تضيف الكثير من المعاني لمفرداتنا, وتجعل الموت كالحياة, كلاهما يحمل معنا واحدا ولكن بلغة فلسطينية خالصة.
سلام لروحك أيها الشهيد القائد .. سلام يا من جسدت فينا ومنا ولنا ملمحا آخر من ملامحنا ... وتفصيلا جديد لهويتنا.... ومفهوما مختلفا لحياتنا وموتنا.