هنالك أسئلة كثيرة في أذهان الأجيال العربية الصاعدة تنتظر الإجابة عليها بفارغ الصبر، ما هذا الوحش الغريب في شكله وطبائعه الذي يجثم على صدر الأراضي العربية؟يستقطب إليه ما هب ودب من جنسيات عربية مسلمة وجنسيات أخرى متعددة الأديان رافضة وكارهة للحياة، ومتمردة على قوانينها الوضعية والسماوية. لماذا ظهر هذا المخلوق الغريب عنا الآن؟ ومتى كان الحمل؟ ومن هو الأب؟ ومن هي الأم التي رعته في رحمها؟ وعلى ماذا كانت تتغذي وبالتالي تغذيه من حليبها المسموم؟ وكيف تم التلاقح بين الأب والأم؟ وما هي مدة الحمل؟ وما سر هذا الجنين الذي تخلق في رحم أمه؟ وولد طفلاً يشبهنا بالشكل، وتحول الى يافع كالوحش ما زال يشبهنا بالشكل لكنه يتناقض معنا في الطبائع والمباديء والأخلاق. لقد كنا ننتظر من الربيع العربي مولوداً جميلاً يعبر عنا شكلاً ومضموناً، ويكون نموذجاً لما كنا نتخيله في أذهاننا وما كنا نراه في أحلامنا الجميلة. أسئلة كثيرة تقف حائرة في عقول النشأ العربي الجديد.
وللإجابة على هذه التساؤلات الملحة لا بد من معرفة الأب الذي قذفه من صلبه ومن معرفة الأم التي استقبلته في رحمها وحملت به. ومتى كان التلاقح وكم استمر الحمل.
الأب هو النظام الدولي العالمي القديم والمتجدد الجديدبأشكال متغيرة تبعاً لموازين القوى والذي ولد بعد الحرب العالمية الآولى وما زال قائماً بأوجهه المتغيرة تبعاً للمصالح القومية وكانت البداية المباشرة واللاحقة للمقدمات بعصبة الأمم المتحدة عام 1919م في مؤتمر باريس للسلام العالمي وانتهاءً بالأمم المتحدة التي جبت العصبة عام 1942م وتمخض عنها مجلس الأمن الدولي الذي يمثل في شرائعه شريعة الغاب (القوي يأكل الضعيف).
الأم هي النظام القُطري العربي بتقسيماته الجغرافية القسرية والشاذة عن قوانين الطبيعة، والتي تم تلقيحها من قبل النظام الدولي يوم عقد إتفاقية سايكس بيكو السرية بين فرنسا وبريطانيا ما بين عامي 1915 و 1916م،والتي تضمنت في بنودها إقتسام أراضي الإمبراطورية العثمانية المتداعية فيما بينهما. حيث أن أراضي هذه الإمبراطورية وخاصة العربية منها ستشهد فراغاً سياسياً بعد سقوط الدولة العثمانية، وهي مؤهلة لقيام إمبراطورية قومية عربية تجمعها عوامل وحدة هي الأقوى في العالم (اللغة، الدين، القوة البشرية، العادات والتقاليد، صلة الدم، التاريخ المشترك، الجغرافية المتصلة الشاسعة والغنية بالموارد الطبيعية والمتنوعة). وهذه القومية إن استقلت ونهضت ستكون مؤهلة لأن تصبح قوة عظمى يصعب السيطرة عليها والإستفادة من خيراتها، ولإحباط هذا المشروع الذي يعشعش في نفوس مواطنيها كانت إتفاقية سايكس بيكو وكان وعد بلفور مكملاً بمثابة الخنجر المسموم في خاصرة هذه القومية الناشئة والمتأهبة للإستقلال لتحقيق أماني ساكنيها. وبدأت ولادة الأجنة القطرية العربية من إعلان إستقلال القطر العراقي عام 1932م وتوالت الولادة القطرية تباعاً وانجبت أقطاراً عربية بتقسيماتها العجيبة الغريبة التي نشهدها الآن والمرشحةاليوم بقوة لتقسيم المقسم. وما زاد هذا التلاقح غرابة وشذوذاً عن قوانين الطبيعة وأورثه الجنون والظلم صدور وعد بلفور وزير خارجية بريطانياً لليهود المستقطبين من شتات الأرض بحصولهم على وطن قومي لهم في فلسطين العربية تاريخاً وهوية والذي صدر عام 1917م.
إذن داعش وأخواتها من قبلها من التنظيمات الإسلاموية المتطرفة نتائج لهذا الزواج غير المتكافيء، والشاذ بين نظامين فاشلين واحد قوي في القمة السلطوية التنفيذية والتشريعية وآخر في القاع لا يملك من أمره شيئاً لا في السلطة ولا في التشريع، نظام قوي يفتقد للمباديء والأخلاق لكنه يملك القوة الباطشة المفرطة، تحكمه الغرائز الدنيوية والجشع والمصالح الخاصة، ويحكم بالسوط والكرباج، ونظام ضعيف غني بموارده لكنه مشتت القوى، يسوده الجهل والفقر والجوع، ويفتقد الى التوازن لما وقع عليه من تسلط وإستعمار وحشي متوارث.إنه صراع على الأرض ومكنوناتها يشبه الى حد بعيد الصراع في الغاب بين الأسدالجائع الذي يملك المخالب والأنياب القوية، وبين الثورالمكتنز باللحم والتقيل الوزن وكبير الحجم، ويملك قروناً لا يستطيع الدفاع بها أمام حيل وذكاء الأسد وما لديه من مخالب وأنياب. لكنه لا يملك القوة لمقابلة أنياب الأسد عندما يقفز عالياً ويعتلي ظهره ويغرز أنيابه ومخالبه في جسده ثم يتبعه أقرانه من الأسود الجائعة ينهشون لحمه من كل اتجاه، الى أن يستسلم لقدره المحتوم فيصبح طعاماً سائغاً للأسد وأقرانه وزوجاته وبنيه من الأشبال. حقاً إنها وليمة كبرى.
ولكن كيف؟ وما هي مظاهر الفشل لكل من الأب والأم؟
مظاهر الفشل والمرض في الأب الذي أورث جينات الشر والقسوة والجبروت والجريمة في الجنين.
اولاً :ممارسة الأب بصفته حاكماً للعالم ومتحكماً به بمنطق القوة المفرغة من الأخلاق، إستعمار الشعوب وحكمها بالإرهاب بالسوط والكرباج، لذلك كان الأب المُستعمر هو أول من ابتدع الإرهاب وسلطه على الشعوب المُستعمرَه، واستنفذ طاقاتها وخيراتها جشعاً وظلماً وإستبداداً، وكانت معاملته لهذه الشعوب المستضعفة كمعاملة السيد للعبد، قهر وكبت للحريات وقسمة ضيزى للموارد والخيرات، وأسر وإعتقال وإعدامات على أعواد المشانق لكل من يحاول أن ينتفض ضد الظلم والإستبداد باحثاً عن الحرية التي وهبه إياها الخالق، فمفهوم الإرهاب والحكم بالإعدام شنقاً الذي نسمع به اليوم بشكل يصم الآذان بدأ مع الإستعمار، وهو بضاعة مستوردة منهم، وبدأت الشعوب المستضعفة تراكم هذا القهر والظلم في نفوس أبنائها، وتبحث عن وسيلة لتفرغ بها هذا الكبت المتقيح بالقلوب، وكان الإنفجار لهذا الكبت لأبناء تلك الشعوب المستضعفة ومنها شعوبنا العربية على صورة ما نراه اليوم من قسوة وإجرام لأبناء تلك الشعوب المستضعفة تمارسه على أبناء جلدتها بصورة لا يستوعبها عقل بشري.
ثانياً:الكيل بمكيالين في القضايا الوطنية والتحررية والنهضوية، وبصفة الأب الذي هو الحكم والجلاد المنفذ للحكم، والفيصل قي القضايا الإنسانية، كان يحكم بمنطق القوة، وبما يتماشى مع مصالحه الشخصية بغض النظر عن قوة الحق الأخلاقية والإنسانية في القضية المعروضة عليه في مجلس الأمن الدولي، وخاصة فيما يتعلق بالقضايا العربية التحررية، وكان هذا جلياً وواضحاً في القضية الفلسطينية التي جوهرها الحق البائن، فكم من القرارات الدولية الصادرة لصالح الفلسطينيين بقيت مجمدة دون تنفيذ وخاصة قرارات الأمم المتحدة عام 1947 م الخاص بتقسيم فلسطين والذي يعطي الفلسطينين ما يقارب نصف أرض فلسطين التاريخية وقيام الدولة الفلسطينية تزامناً مع قيام دولة اسرائيل التي قامت وتوالت الإعترافات الدولية بها من القوى العظمى وتبعتها القوى الصغرى والتابعة لها، والقرار رقم 194 والذي يعطي اللاجئين المشردين حق العودة للأرض التي شردوا منها، والقرارات العديدة لصالح الفلسطينيين والتي أحبطتها الولايات المتحدة الأمريكية بإستخدام حق النقض (الفيتو). وعندما تعلق الأمر بقضايا عربية أخرى كقضية العراق، وقضية سوريا في مقتل الحريري وقضية السودان في دارفور، وقضية ليبيا كانت القرارات تطبخ بسرعة البرق وتنفذ فوراً كالرعد الذي يتبع البرق، وحتى العراق تم مهاجمتها واحتلالها دون قرار دولي بل بقرار أمريكي تبعه تدخل أوروبي وعالمي إنصياعاً لمغامرة أمريكية صبيانية. أما اسرائيل فكانت فوق القانون ولا تصغي لتلك القرارات، وكان السكوت على إرهابها على الشعب الفلسطيني والشعوب العربية يعرف من قبل النظام الدولي على أنه دفاع عن النفس، أما المقاومة الفلسطينية المشروعة سماوياً ووضعياً كانت تندرج تحت تعريف الإرهاب.
ثالثاً: العمل على بث الفرقة بين أبناء الشعوب العربيةوتحويل الدين كعامل موحد لهذه الأمة الى عامل مفرق ومثير للفتن والحروب الطائفية، وذلك بإثارة الفتن بين الطوائف والعقائد، وتوظيف هذا الإختلاف للقيام بحروب بينية عربية نيابة عن حروبهم المباشرة معنا للحفاظ على سيطرتهم على مقدراتنا والحيلولة دون قيام نهضة فكرية وثقافية وعلمية ربما تهدد سيطرتهم علينا. وبدأ هذا منذ خلع نظام الشاه الإيراني العلماني واستقدام النظام الطائفي الديني الى إيران، وتم توظيف الإختلاف على الدين لخدمة مصالحهم في أفغانستان، وفي العراق وفي سوريا وفي ليبيا.
رابعاً: فشل النموذج العراقي الذي جاء ضمن نشر الديمقراطية الغربية الأمريكية في الوطن العربي في سياق مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي كان في أذهانهم سيعيد رسم خارطة المنطقة بما يتناسب مع مصالح النظام الدولي الجديد الذي ورث الإستبداد الإنجليزي والفرنسي. لأن هذا النموذج إعتمد تقسيم الدولة الواحدة والشعب الواحد الى طوائف وملل، وكان الفشل ظاهراً بوضوح في سهولة سيطرة داعش على مدن عراقية كبيرة في وقت قياسي قصير وهزيمة جيش دولة طائفية هزيلة من صنعهم قامت على أشلاء دولة عريقة قوية ينضوي تحتها كل الأطياف. وبدت دكتاتورية الدولة القديمة مقارنة بالدولة المعاصرة التي صنعوها كالجنة مقابل جهنم. وتبع فشل النموذج العراقي فشل النموذج الليبي الذي بثت فيه الروح الطائفية والعقائدية المتناحرة، والنموذج المصري الذي ثار عليه الشعب وأسقطه، وسقوط النموذج التونسي بالقوة الناعمة. وما زال النموذج اليمني والنموذج السوري يترنح آيلاً للسقوط.
خامساً: التدخل السافر في أحداث الربيع العربي وحرف البوصلة عن الهدف الوطني المتوخى من الثوار الشباب، وإعتلاء الموجة ومحاولة تجيير نتائجها لصالح النظام الدولي الجديد بالتحالف مع قوى الإسلام السياسي التي كانت تصبو الى تدمير الدول القائمة من أساساتها وتجريدها من تاريخها وبناء نماذج حكم تقوم على الميليشيات المسلحة تدين في عقيدتها لحكم الحزب الواحد المتعطش للسلطة ومقايضتها بأي ثمن كان حتى لو أدى الى تدمير دول قائمة وقيام دويلات بديلة في سياق مشروع الشرق الأوسط الجديد.
مظاهر الفشل والمرض في الأم الذي أورث جينات الفرقة والتحلل والإنحلال.
أولاً : لن نخوض طويلاً في أمراض النظام العربي القطري لأن أهل مكة أدرى بشعابها، ونعود الى صراع الأسود مع الثيران في الغاب، فلو إنفردت الأسود بثور خرج عن السرب وافتقد عوامل التكامل مع غيره من الثيران مهما كان قوياً ومتفاضلاً،وسواءً كان الإنفراد بإرادته أو كان طوعاً لما أريد له، وابتعد عن القطيع لكان صيداً ثميناً سهلاً للأسود. وإن ما حدث للنظام العربي القطري كان من دهاء النظام الدولي الذي أراد له أن يكون قطيعاً مفرقاً تفريقاً متناثراً غير متصل وغير متماسك، مشتت الفكر والهدف، وقليل الحيلة والبحث والإبداع، فعمل كل ثور لمصلحته الخاصة ولإشباع غرائزه الدنيوية الحاضرة، دون النظر الى مصلحة المجموع، والى مصلحة الأجيال القادمة، وافتقد الوعي والذكاء والإمكانيات وعوامل القوة التي يتحلى بها الأعداء الذين يخططون له بعكس ما يريد، فكانت النتيجة الحتمية أن يبتلى بأمراض الفرقة والتناحر والإحتراب والتشرذم والضياع.
نخلص الى أن ظاهرة داعش هي فيروس فتاك تطور عن فيروسات الأمراض التي ورثتها من الأب والأم على حد سواء، كان قبل ذلك فيروس القاعدة، والمنظمات الجهادية الإسلاموية، ومنظمات الفكر العقائدي المتشرذم والمغلق على نفسه، والذي لا يقبل الآخر من بني جلدته ولا الآخر من غير بني جلدته، فقد ورث عن الأب الإرهاب والجريمة والقسوة والظلم والمكاييل المتناقضة، وورث عن الأم التشرذم الفكري والعقائدي والثقافي، والإفتقار الى الوعي، فكانت ثورته الإنتقامية على الأم العربية الفاشلة، دون أن يحاورها حوار الإبن للأم التي حملته وأرضعته وربته بما لديها من ثقافة ووعي، حيث لم تحسن تربيته، ولم تورثه الثقافة والفكر المعتدل، واستقطب إليه كل من يرفض الإنتماء لهذا النظام العالمي من المنحرفين المعتلين عقلياً ومنحرفين عقائدياً ومن الثائرين على الظلم من الجنسيات والأديان الأخرى من جميع أنحاء العالم. وحاول أن يقيم نظاماً معزولاً لا يعترف بالنظام الدولي القائم، لا بحسناته النظرية، ولا بمساوئة التي يقتدي بها ويمارسها على نفسه وعلى أمته.