امام الذكرى ومساحة الم الغياب والفراق ... ومدى الحاجة الملحة لمن هم اكبر منا... واكثر قدرة وعطاء... والاحرص على القيم والمبادئ وزرع الآمال وحب الوطن .... كان واجبا ملحا .... كما هو الحق لي ولغيري ان يعتز بأصحاب الفضل .... ومن تربوا على اياديهم وتعلموا منهم.. ومن تسلحوا بقيمهم ومبادئهم.. كما حال كافة الابناء والاجيال التي يجب عليها ان تعود بذاكرتها الي من لهم فضل عليهم... ومن تعلموا منهم وشكلوا لهم حصنا ومانعا من الانزلاق في حياة الغرور ومتاهات الدنيا .
كان الفراق الحتمي بحكم القدر لأعز الرجال الذي تعلمت على يديه الكثير الكثير في اللحظات الصعبة ...ومدى حاجتنا صغارا وكبارا... وعدم قدرتنا عن الاستغناء لتوجيهاتهم وارشاداتهم وحرصهم علينا ومدى الحنان والحب الذي غمرنا به .
والدي المرحوم( صالح ابراهيم زنداح طافش) الذي فقد والده بسبب موقف رجولي عندما استغاثت به امرأة فلحق بالمعتدين وعندما تعرف عليهم قاموا بقتله فكان القصاص منهم من العائلة بأسرع وقت ممكن ..... حرم الطفل من والده صغيرا وحرم من الرعاية فكانت مدرسة الايتام الاسلامية بالقدس العنوان والملاذ لمواجهة مصاعب الحال وضعف الامكانيات .
كان والدي رحمه الله مؤمنا بما قدر له في طفولته والتي ولدت لديه حافزا ودافعا وارادة لا تلين لشق طريقه في الحياة برغم مصاعبها ومتطلباتها .
تلقى تعليمه في مدرسة الايتام الاسلامية بالقدس والتي احبها وعشق جبالها وجدرانها وكان دائم الذهاب اليها ما بعد نكسة حزيران (67) والذي عاش فيها مدة (25) عاما منذ طفولته وحتى عودته الي مسقط راسه غزة .
لم تكن طفولته مانعا من التعليم والعمل في ان واحد ...حتى يتمكن من توفير القدر الضئيل من المال بمحاولته المستمرة لبناء نفسه وحتى يتمكن من مواجهة احتياجات الحياة حتى يستطيع ان يتزوج وينجب الاطفال فما كان أمامه الا المزيد من الاصرار والعمل وعدم الاتكالية فعمل في (صيدلية العلمي) بالقدس امام باب العامود اثناء وجوده ودراسته في مدرسة الايتام .
ما يدفعني للكتابة في هذا اليوم الكثير من العواطف والحنين لذكراه الطاهرة كما الكثير من المبادئ والقيم التي تعلمناها والتي تتلخص بمشوار حياته بكل مصاعبها والتي لم تجعله يتوانى عن القيام بواجبه الوطني والمتعارف عليه لدى بعض المؤرخين والكتاب ومنهم الاستاذين (على وهارون هاشم رشيد) والقصة المعروفة التي درسها البعض بعنوان (رصيف الدموع) والتي تعرفه بالفدائي الصغير .
الفترة الزمنية التي عاشها والدي رحمه الله في مدينة القدس اثناء طفولته وشبابه عرف عنه بشخصيته الجذابة ومحبة مدرسيه واصدقائه كما كان ملتزم بقضية شعبه وحقه بالمقاومة منذ الصغر...رافضا كل من يحاول ان يزيد من حرمانه ...ويحاول سلب أماله بالحياة الكريمة داخل وطنه .... كان متواصل بصداقاته وعلاقاته مع الجميع وحتى مفتى فلسطين المرحوم الشيخ (امين الحسيني) الذي رعاه بطفولته وكان دافعا له لشق طريقه بالنضال استفادة من طفولته وقدرته على تهريب السلاح للفدائيين في جبال القدس .
كان نموذجا متواضعا ورائعا بفكره ومفهومه للحياة والتي اعتمدت على المحبة والتسامح وعدم الكراهية لأحد .. كما كانت له فلسفته الخاصة التي تولدت بفعل نشأته وحياته المدرسية الداخلية بمدرسة الايتام بالقدس والتي اعتمدت على مبدا (الحاجة ام الاختراع) كما كان دائم التطلع بالعودة الي مسقط رأسه غزة.... وكما كان يغني في لحظات صمته العميق بصوت خافت واثناء سرحانه المعبر عن عمق فكره واحاسيسه والتي قيلت لنا فيما بعد
(يا عزيز عينى .وانا بدي اروح بلدي)
كانت القدس وطنه كما غزة مسقط راسه كما العريش (مصر) مكان مولده ..وكأنه يمثل خارطة الاحداث ان الوطن والشعب واحد لان تجربة النضال منذ نعومة اظافره مع الفدائيين المقاوميين للانتداب البريطاني والمجموعات اليهودية المتطرفة ...والذي لم يكن مقاتل بحكم صغر سنه بقدر ما كان عاملا وفاعلا ومساعدا في نقل الاسلحة استفادة من صغر سنه وعدم امكانية اكتشافه .
كتبت له الحياة بالقدس بعد ان نجى اكثر من مرة وكان قدره الموت في غزة وما بينهما سنوات طويلة من النضال الوطني والكفاح من اجل لقمة العيش والسعي لبناء اسرة .
والدي رحمة الله عليه كان مقلا في كلامه متواضع في حياته بسيط في معاملاته ولم يخوض في تاريخه الشخصي ولم يكن يعرف للغرور طريق ..... اراد ان يعلمنا للاستفادة من كل جلسة عائلية او جلسة ثنائية وقد تعلمنا منه الكثير وكنا بحاجة اكبر للاستفادة ..ولكن هكذا سنة الحياة .
كانت لي الكثير من المشاهدات والتي لم اكن اعرف اسبابها ومعانيها ودلالاتها..... ولكنني اليوم بعد ان امتد بنا العمر واصبح لي اسرة وابناء كبار وأحفاد..... بدأت الصورة تتوضح لي بصورة اكبر مما كنت افكر به بالماضي... لوهم انني ارى كامل الصورة كما حال الكثير من الابناء الا انني بدات ادرك اليوم ان هناك الكثير من جوانب وتفاصيل الصورة لا زلنا نجهلها .
كان والدي رحمة الله عليه يرسخ في عقولنا الكثير من المفاهيم والمبادئ كما كان يؤكد لنا بواقع افعاله ما كان يردده لنا وعلى سبيل المثال وليس الحصر....... لا تنخدعوا ببريق الحياة ..... كونوا محبين للجميع .....لا تنخدعوا بكل ما يقال لكم..... ولا تنبهروا كثيرا بمفردات الكلام...... ما كان يقوله لنا كنت ارى تطبيقه اثناء مشاهدتي فعندما كان ياتي له رجل بسيط كان يقوم ويرحب به الى درجة ملحوظة على عكس استقباله لشخصية عامة التي كان يحترمها ولكن بصورة طبيعية وعندما كنت اسئله رحمه الله كان يقول لي ان هذا الرجل البسيط حساس لدرجة عالية ويجب ان لا نشعره بحاجته لنا .... بينما هذه الشخصية الاخرى ترى في الناس خدم لها بنفاقهم وهذا ما يجب ان يحارب وان لا يتعزز في سلوكيات الافراد وداخل المجتمع ..... تعاملوا مع الانسان على اساس مبدا الاحترام ولا تفرقوا بين انسان واخر لاننا كلنا بشر ولا فرق بين غنى وفقير.... وكان يقول لنا كنت فقيرا ودخلت مدرسة الايتام بالقدس وكنت اخاف العودة الى غزة لعدم قدرتي على توفير متطلبات الحياة... لكنني عدت الى مسقط راسي وعملت بجد واجتهاد واصبحت من الاغنياء وهرب الفقر وحل محله الغنى... لكنني لم اتغير في خلقي وفكري ومشاعري وعلاقاتي ...... ويضيف متحدثا لنا بانه عندما عاد الى غزة بالعام ( 1947-1948) من القرن الماضي امتلكت (دراجة هوائية )مع ان امكانياتي المادية كانت تؤهلني لشراء سيارة وقد اشتريت سيارة بالعام ( 1962 ) وكانت اول سيارة مرسيدس (بنزين) وما بعد نكسة حزيران (1967 ) قمت بشراء (موتوسيكل) حتى اتمكن من الذهاب الى عملي من الشوارع الفرعية الضيقة لصعوبة الاوضاع الامنية ...من هنا يكمن مبدا (الحاجة ام الاختراع) وان المظاهر لا ترفع من شان احد ..... كما ان المال والصفة لا توفر الاحترام.... الا لمن يحترم نفسه ويحترم الاخرين .
لقد شكل فراقك يا والدي صدمة كبيرة لا زلنا نعاني منها ولكن لا يخفف الم الفراق الا صوتك الذي لا زال مسموعا ....... ومبادئك وقيمك لا زالت راسخة بالعقول وان ما علمتنا اياه لا زالنا متمسكين به وثابتين عليه ..... وبرغم انفصالك عن والدتي السورية المقيمة بدمشق والتي لحقت بك قبل عام في العاصمة السورية دمشق والتي أحببتها وعشقتها وكنت دائم الحديث عنها رحمها الله .... ولكنك اكسبتنا حنان كبير ورعاية شاملة وتعليم دائم...... لكنها الحاجة الدائمة والملحة للنموذج الذي يمكن الاقتداء به لمساعدتنا على ايجاد الحلول ...وفكفكة الكثير من الالغاز والطلاسم وعبدة الاصنام والتي لا زالت لا تريد ان تفهم وتصر على ان لا تتعلم .
كان والدي رحمه الله محبا وعاشقا لمصر كما سوريا ....كما القدس وغزة ..وكان دائم الحلم أن يري الحدود وقد زالت .
(رحم الله والدي ووالدتي ) واقاربي و الشهداء من عائلتي وكل من لهم فضلا علينا من اساتذتي وحتى جدتي وخالتي رحمهم الله والمدفونتين بمدافن القاهرة والرحمة لكل اموات المسلمين والشهداء الابرار الاكرم منا جميعا ودعائي لهم ...وقراءة الفاتحة على ارواحهم الطاهرة.
الكاتب :وفيق زنداح