في مشهد مقارب لما جرى في رومانيا عام 1989 ضد الطاغية " نيقولاي تشاوشيسكو" خرج الآلاف من أبناء حركة فتح في قطاع غزة معلنين رفضهم لسياسات الرئيس "محمود عباس" بحق أكثر من مليون وثماني مئة ألف فلسطيني يعيشون في قطاع غزة ظروف كارثية نتجت عن حصار وعدة حروب متتالية، حيث لا زالت آلاف الأسر الفلسطينية مشردة باحثة عن مأوى في ظل مصير مجهول لم تجب عنه تعهدات الإعمار وسلطة تدّعي كذباً إنفقاها 55% من موازنتها لصالح قطاع غزة، في وقت عاقبت فيه القطاع بمجمل سياساتها الإقتصادية وتركته فريسة الفقر والبطالة والحصار منذ ما يزيد على الثمانية أعوام، وسجلت على نفسها قرارت مخزية مررتها تحت عناوين" الإنقسام" أو عدم تسلم "حكومة الوفاق" لمهامها في قطاع غزة، وغيرها من مبررات كشفت عن هزالة النظام السياسية الفلسطيني وغياب روح المسؤولية عنه منذ أن تولى قيادته" محمود عباس" حتى الآن.
المسؤولية الوطنية والأخلاقية لهذا الرئيس وحكومته تقتضي تكثيف حجم إنفاق حكومته على قطاع غزة بعد الحرب المدمرة التي خلّفت ورائها آلاف الشهداء والجرحى والمنازل المدمرة، وتتطلب هجوماً جاداّ نحو المصالحة وإنهاء الإنقسام وفرضها مهما كانت العقبات التي تعترض طريقها بدل الهروب من هذا الإستحقاق الوطني وإستبداله بجملة من الإجراءات التعسفية والعنصرية التي جرى تمريرها بحق الفلسطينيين من أبناء غزة على شكل "عقوبات جماعية" تناظر ما فعلته إسرائيل خلال حكمها العسكري المباشر لقطاع غزة حتى الآن، حيث أقدمت حكومة الرئيس عباس على وقف التحويلات الطبية وقلصت نفقاتها على المستشفيات من الأدوية والعقاقير الطبية وصادرت حقوق مكتسبة للموظفين المدنيين والعسكرين وأحالت عدد كبير منهم إلى التقاعد المبكر وصادرت مهام وصلاحيات جميع الموظفين من أبناء غزة بمختلف الدرجات الوظيفية وفصلت عدد كبير منهم للتخلص التدريجي من أي علاقة تربط السلطة ورئيسها بقطاع غزة دون النظر في مخاطر هذه الإجراءات التي تساعد في تكريس الإنقسام وتخدم المستفيدين منه.
كل ما سبق يترافق مع حالة "هوس تآمري" أصابت الرئيس عباس، الذي أصبح يشك في عدد أصابع يده، حاله كحال من سبقوه من طغاة في العالم، حيث يرى كل من يخالفه الرأي عدو ينبغي الإجهاز عليه بطريقة بوليسية أو من خلال بوابة الجهاز القضائي الذي أصبح مطواعاً لتنفيذ سياسات الإقصاء، وصولاً إلى لفضيحة الصارخة التي أثارتها الوثيقة المسربة لرئيس هيئة مكافحة الفساد بحق النائب محمد دحلان وما حملته من دلالات جديدة تؤشرعلى حجم الإنهيار الذي أصاب النظام السياسي الفلسطيني وسقوطه بالكامل في قبضة ديكتاتور مستبد تحت سلطة الإحتلال الإسرائيلي يقدس المفاوضات والتنسيق الأمني.
قلت تشاوتشيسكو فلسطين للمقاربة بين ما جمع الإثنين من صفات رغم أن ممارسات الإستبداد في كل العالم واحدة، ويتشارك المستبدون في معظم الصفات، لكن محمود عباس ونيقولاي تشاوتشيسكو تشاركا في معارضة فاعلة من أعضاء حزبيهما، إذا ما استحضرنا مشهد المحتجين في رومانيا من أعضاء "الحزب الشيوعي الروماني" الذين رفعوا بطاقات عضوية الحزب خلال عملية إسقاط الديكتاتور وقادوا الجماهير لإنهاء حقبته المظلمة، وهذا ما قام به أبناء فتح في قطاع غزة كمبادرة حزبية واسعة تعدّ من أرقى أشكال الإحتجاج العلني وعجزت عن فعلها بعض الأحزاب الخجولة الحائرة في رحلة البحث عن قائد جديد، بعد يقينها من حتمية سقوط الديكتاتور.
يبدوا أن حركة حماس أدركت أن عتبة خلاصها من خلال التقارب مع النائب محمد دحلان خصمها السياسي الأول، بعد مراوغات محمود عباس المضنية، وبعد تقييمها لمرحلة ما بعد سقوط حكم الإخوان في مصر، فقد أعلن قادتها عن سلسلة مواقف وتصريحات تؤسس لحقبة سياسة ما، وهي قد تكون جادّة في هذه التصريحات والمواقف ولا تناور على وتر العلاقات الداخلية الفتحاوية، وهذا يجوز في السياسية التي لا تعرف الخصومة الدائمة ولا التحالفات الثابتة وستكشف الأيام عن جديد لوّح به النائب دحلان وتحدث به بعض قادة حماس.
المشكلة الأساسية في جزء مكونات الحركة الوطنية وبقية الواهمين من اللجنة المركزية في حركة فتح، الذين لم يقررو بعد مغادرة دائرة القلق والحيرة، واستسهلوا المراوحة في دائرة العاطفة والحنين للمعبد الذي وضعهم فيه عباس، مع إدراكهم الأكيد بإفلاس هذا الرجل سياسياً بعد سلسلة إخفاقات ومغامرات كان آخرها القبول بالمبادرة الفرنسية التي ستعرض على مجلس الأمن الدولي بما تضمنته من تراجع سياسي خطير في مواضيع جوهرية كالقدس والإستيطان واللاجئين الفلسطينيين، وفقدانه لمجمل الإسناد العربي والدولي لصالح العلاقة مع أمريكا ورهانه المستمر عليها كراعية للسلام، هؤلاء جميعاً بحاجة إلى عملية تقييم جادة والبحث في مستقبل الحركة الوطنية التي لحقها ضرر كبير من سياسات عباس، وحوّلها إلى يافطات سياسية ترفع عند الحاجة، وباتت تستهوي أنشطة تصدير المواقف والبيانات أكثر من عمليات الفعل المعارض الحقيقي على الأرض- مع تقديري لمحاولات البعض للخروج من دائرة الصمت، ولكن هذه محاولات خجولة تأتي على شكل ردات فعل آنية ولا يمكن أن تكون طريقة للخلاص من سياسات عرضت مجمل القضية الوطنية للخطر وتركت الشعب فريسة الإحتلال الإسرائيلي ورئيس فلسطيني عاجز يمارس الإشغالات الداخلية ويستبد لضمان أطول فترة حكم ممكنة.
من يقوم بتحطيم الأصنام في كل المعابد عدد قليل من البشر يشار لهم بالبنان حتى يومنا هذا، هم قادة صنعوا التاريخ وأحدثوا تحوّلات حقيقية عليه، قادوا شعوبهم في أسوأ الظروف وعبروا معهم إلى المستقبل، وشعبنا بحاجة إلى مبادرة خلاص وطني جادة يصنعها القادة وتكون بارقة أمل تعيد الإعتبار له ولقضيته، والرئيس عباس ليس أفضل من الحبيب بورقيبة، ولم يساهم في بناء إمبراطورية مثل جوزيف ستالين، ولا حتى شبيهاً بصدام حسين، هو ديكتاتور فريد من نوعه وعجيب في مسلكياته وأخلاقياته، ووصل إلى آخر فصل من فصول المهزلة.