تحل مناسبة عيد الميلاد المجيد عيد ميلاد النبي عيسى عليه السلام حاضرة في الوجدان الفلسطيني وفي كل فلسطين التي تحتضن بين جنباته اتباع الديانة المسيحية من اصحاب التقويم الغربي اوالتقويم الشرقي. وهي مناسبة بقدر ما تحمل بعدا دينيا، إلآ انها بالنسبة للفلسطينيين تحمل بعدا وطنيا، لاسيما وان السيد المسيح عليه السلام، كان فلسطينيا بامتياز. ولذا الاحتفال بعيد الميلاد من كل عام، هو احتفال يعني كل الشعوب المحبة للسلام والتسامح. تأتي هذه المناسبة المجيدة وبيت لحم حزينة والقدس تتألم، والاحتلال الإسرائيلي لم يتوقف لحظة واحدة عن بطشه وأساليبه القمعية بحق الشعب الفلسطيني وقضيته العادله.
نعم الشعب الفلسطيني يتوحد باعياده كونه جزء لا يتجزأ من الامة العربية وهو يحتفل بهذه الاعيارد تعبيرا عن إيمانه بعدالة قضيته رغم الظروف القاسية والصعبة التي يعيشها في فلسطين من احتلال، هذا الشعب الذي يطمح كباقي شعوب المعمورة للحصول على استقلاله وحريته.. هذا الشعب الذي قدم الكثير كي يتحرر من براثين الاحتلال. ان الشعب الفلسطيني يسعى الى استعادة وحدته الوطنية وانهاء الانقسام حتى تبقى واجهته " فلسطين " ويتطلع الى دول العالم المحبة للسلام للوقوف إلى جانب قضيته الوطنية العادلة وإرغام دولة الاحتلال للانصياع لقرارات الشرعية الدولية لتحقيق السلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وأن يعم السلام كافة أرجاء المعمورة
وامام هذه المناسبة المجيدة نقول أن الأمم والشعوب تموت عندما تحيا ، وما تتعرض له شعوبنا اليوم من قبل المشروع الإستعماري ، هو مخطط ومدبر له من قوى الامبريالية الإستعماري ، بهدف إدخال المنطقة العربية في أتون الفتن المذهبية والطائفية،وإستخدام قوى ارهابية تكفيرية من اجل ان تقوم بتنفيذ هذه المهمة، فلا فرق بين داعش والنصرة وارهابهم ،إلا في الدور والمهمة والوظيفة والمهام المنوطة بها من اجل العمل على تصفية الوجود العربي المسيحي في المشرق العربي،بل وخلق فتنه مذهبية شيعية – سنية،وقتل وذبح وتهجير الأثنيات والقوميات الأخرى ،والهدف منع تبلور وتطور أي مجتمعات ودول وطنية ومدنية،وخلق ثارات وجروح عميقة بين فئات المجتمع لا يمكن لها ان تندمل لعشرات بل مئات السنين،وضمن هذا المخطط جرى ذبح وطرد وتهجير مسيحيي الموصل ،هؤلاء الموجودين هناك منذ اكثر من الفي عام،فقد وضعتهم داعش امام نفس الخيارات التي وضعت فيها مسيحيي الرقة السورية، وعملت على قتل المئات منهم وحرق وتفجير كنائسهم واديرتهم،وكذلك قامت بنبش وتدمير مزارات ومراقد الأنبياء كالنبي يونس،وعمليات القتل والتدمير والحرق والنبش هنا لها معاني ودلالات علينا ان نتذكرها جيدأً،فهم يريدون ان تصبح عمليات هدم المساجد وحرقها مسألة عادية،وبما يجعل اي عملية هدم وتدمير من قبل الإحتلال الصهيوني للمسجد الأقصى مستقبلاً عادية،عمليات القتل والإبادة الجماعية سواء للمسيحيين او المسلمين وغيرهم،هي مقدمة وممهد لما يجري في قطاع غزة،بحيث تصبح عمليات القتل التي يقوم بها الإحتلال هناك لشعبنا واهلنا عادية ومشروعة،وكل ذلك ممهد لإيجاد نظرية جديدة دم مقدس ودم غير مقدس. واليوم لم تكتفي”داعش” بجرائمها هذه فقط،بل أمعنت في ذلك عبر دعوة سكان الموصل لتقديم بناتهم ونسائهم لعمليات ما يسمى بجهاد النكاح الجماعي ومن يتخلف او يرفض ذلك يجري قتله، هذه العصابات المجرمة المتمسحة والمتاجرة بالدين وعواطف الناس ومشاعرها والدخيلة على فكرنا وواقعنا وقيمنا ، تخطف العسكريين اللبنانيين وتقتل وتعدم بهم من دون سبب سوى من اجل اشعال نار الطائفية ، فهؤلاء الابطال ما زالو رهائن عندهم ، فمنهم من قضى دون سبب شهيدا ومنهم ما زال ينتظر الوساطات التي نأمل بمناسبة الاعياد ان يكون لها فعلها من اجل الافراج عنهم وعودتهم سالمين الى اهلهم وعائلاتهم .
ان هذه الظاهرة الخطيرة ما كان لها أن تنمو لولا وجود حواضن وداعمين لها ،وهي من تسيء للدين وتشوهه وتنفر الناس منه في فعل ممنهج ومبرمج،فهي لم تقرأ تاريخ الديانة الإسلامية وعلاقتها بالمسيحية الشرقية، وجميعنا يعرف البطل العربي السوري جول جمال عندما شن العدوان الثلاثي البريطاني- الفرنسي والإسرائيلي على مصر العروبة عام 1956،كيف نفذ اول عملية استشهادية وفجر نفسه بقاربه المحمل بالمتفجرات في الطراد الفرنسي جاندارك وليمهد لنصر مصر العروبة على العدوان الثلاثي وهزيمته،وجميعنا يذكر المناضل القومي العربي السوري فارس الخوري، يوم قال للجنرال غورو الفرنسي ” الذي أبلغه أن فرنسا جاءت إلى سورية لحماية مسيحيي الشرق، فما كان منه إلا أن قصد الجامع الأموي في يوم جمعة وصعد إلى منبره وقال، إذا كانت فرنسا تدعي أنها احتلت سورية لحمايتنا نحن المسيحيين من المسلمين،فأنا كمسيحي من هذا المنبر أشهد أن لا إله إلا الله ، فأقبل عليه مصلو الجامع الأموي وحملوه على الأكتاف وخرجوا به إلى أحياء دمشق القديمة في مشهد وطني تذكرته دمشق طويلا وخرج أهالي دمشق المسيحيين يومها في مظاهرات حاشدة ملأت دمشق وهم يهتفون لا إله إلا الله ، لقد كانوا مسلمين ومسيحيين أبناء هذا الوطن ولم يكونوا عملاء الأطلسي ولا أطفال الناتو كما في ليبيا ولا أيتام قوات التحالف المحتل كما في العراق ، هؤلاء هم مسيحيو الشرق الذين نعرفهم ونعرف تاريخهم ونضالاتهم وتضحياتهم وبصماتهم،فبصماتهم موجودة وواضحة في كل جوانب حياتنا وتاريخنا وحضارتنا وثقافتنا وأدبنا وفلسفتنا وثوراتنا ونضالاتنا، لهم في العمل الوطني والسياسي،لهم في الثقافة والتاريخ،لهم في الحضارة والفلسفة،لهم في الأدب والتراث،،وهم ليسوا لا دخلاء ولا غرباء في وطنهم،وهم ليسوا أقلية في وطنهم،فهم جزء أصيل من هذا الوطن العربي وملح هذه الأرض.
وفي لحظات عيد الميلاد المجيد اقول ان ما يتعرض له مسيحيو الشرق من ظلم وإضطهاد وقتل وتشريد وتهجير،على يد عصابات مجرمة تحسب نفسها على الإسلام من “داعش” الى “النصرة” وغيرها مدعومة من قوى امبرياليه وإستعمارية، تلتقي معها في الهدف والمخطط ،ألا وهو العمل من اجل طرد وتهجير مسيحيي الشرق، نعم هي حملة ظالمة تطال كل مسيحيي الشرق،تدمر الفسيفساء والنسيج الإجتماعي لمجتمعاتنا العربية،لكي تحولها الى دول دينية فاشية،عمادها المذهبية المتصارعة والمغرقة في التخلف والجهل والإقصاء والتطرف،والراغبة بعودة مجتمعاتنا الى القروسطية،فهذه الجماعات المتطرفة،ضد الحضارة والتطور،وحتى ضد كل ما هو بشري وإنساني. ورغم ما يتعرض له مسيحيو الشرق من قتل على الهوية،والإعتداء على كنائسهم واديرتهم واماكن عبادتهم،وحتى قتل الرهبان والمطارنة واختطافهم،كما حدث مع مطارنة حلب ومحررات راهبات معلولا السورية،لم نجد هناك من مسيحيي الشرق من يعلي كنيسته فوق وطنيتها او فوق إنتمائها القومي،ولكن بالمقابل نجد ان بعض قوى الاسلام السياسي تعلي طائفيتها فوق وطنيتها وقوميتها،
لذلك لنرفع صوتنا في عيد الميلاد المجيد بمواجهة هذا الخطر الداهم وإجتثاثه،قبل ان يتفشى في الجسد العربي والإسلامي كالسرطان،لأن ما يحدث في سورية والعراق هو ناقوس خطر على الجميع،ناقوس خطر لكل قومي عروبي ومسلم.
واليوم ونحن تضيئ أشجار الميلاد في ساحات المدن وبيوتها، نتطلع الى ورق شجر الزيتون، لتجوب قلوب كل المحتفلين بهذا العيد، تحتفل القدس وبيت لحم هذا العام بعيد الميلاد حزيناً جراء ما تشهده الاراضي الفلسطينية من حملة تهويد واضحة وعلنية. فبالإضافة إلى جدار الفصل العنصري الذي وضعه الاحتلال الإسرائيلي على الارض الفلسطينية ، وعزل القدس وبيت لحم ، بالحواجز التي قطّعت أوصال المدن والبلدات والقرى عن بعضها؛بينما تستمر قوات الاحتلال بعدوانها وهجوم المستوطنين وتحركاتهم الاستفزازية للشعب الفلسطيني، لم يأتِ عيد على الشعب الفلسطيني دون أن تنغص عليه دولة الاحتلال فرحته.
ان فلسطين هي قضية الأمة العربية كلها وليست قضية الفلسطينيين وحدهم، هي القضية الأولى للأمة لأنه لا حرية حقيقية للأمة وفلسطين محتلة ولا وحدة عربية وفلسطين محتلة ولا حياة كريمة لعربي بدون فلسطين، فعلى الشعوب ان تدعم صمود الشعب الفلسطيني ونضاله ، وان تحمي عروبة القدس، فيكفي الشعب الفلسطيني وهو يصنع صورة مبدعة بالحجر والدهس والسكين وبكل ما أوتي ذلك ، هذا الشعب المقاوم يعيق تطوره غياب الإرادة الموحدة بالمواجهة مع العدو، فينا يستمر البعض بالرهان على التفاوض والمفاوضات رغم كل السنين التي أضاعها الشعب الفلسطيني والأضرار الجمة التي انعكست عليه، وهذا يستدعي من القوى والاحزاب العربية العمل على استنهاض قواها بمواجهة القوى المعادية التي تحرف طبيعة الصراع من صراع وطني وقومي تحرري في مواجهة العدو الصهيوني إلى صراع مذهبي ليس إلا خسارة صافية للشعوب العربية وربح كامل للكيان الصهيوني.
فمنذ الأزل يقاوم الشعب الفلسطيني الاحتلال الذي ينهب أراضيه ويطرد سكانه ويقتل أطفاله كل يوم، ولكنه صامد، حمل العيد هذا العام رسالة أمل تنطلق لجميع أرجاء العالم، وهذه هي الرسالة التي لا زال يتمسك بها الشعب الفلسطيني وسط كل أزماته ومحنه، فبالأمل والمحبة والسلام والأخوة، نحن الفلسطينيون، نختم عاماً ونطوي صفحاته المؤلمة، لنبدأ عاماً جديداً وبصفحات بيضاء نخط عليها جميع أمانينا بالتحرر والاستقرار والأمل.
ختاما: نحن نفرح بفرح اهلنا المسيحين حيث تتحضر شجرة الميلاد وتتلألأ نجمة السماء، وتدعونا لنفتح قلوبنا للنور والمحبة من خلال قرع أجراس عيد الميلاد، ونحن نتطلع ان يتكلل نضال الشعب الفلسطيني بالنصر على الاحتلال وانجاز الحرية والاستقلال والعودة، كما نتطلع أن يحمل العام القادم بشائر الخير والمحبة والسلام، وسائر الشعوب العربية والعالمية ودول العالم المحبة للسلام والعدالة.