أين الديمقراطية في الأحزاب والقوى العربية والفلسطينية

بقلم: عباس الجمعة

العاصفة السياسية التي تعيشها فلسطين والمنطقة هي نتيجة غياب الرؤية الواضحة ، وبات مطلب التغيير لا يشمل الآليات المعتمدة في تسيير الحياة السياسية على مستوى الاحزاب والمجتمع، بل يتعدى ذلك إلى مطلب تجذير التغيير الشامل ليشمل مفاصل أُخرى في الحياة السياسية العربية، وخاصة في بنيات وتوجهات العمل السياسي المستقبلي على مستوى القواعد المجتمعية ، والتغيير مطلوب حتى للقوى السياسية هو إعادة النظر في مفهوم العمل السياسي والحزبي، لان الارتكاز على الديمقراطية في اي حزب او فصيل ، في حياته الداخلية وفي علاقاته هو الاساس. من هنا نرى ان انطلاقة وتأسيس الاحزاب والقوى والفصائل ارتكزت إلى العمل السياسي من خلال الفئات الوسطى والمثقفين والقليل من العمال والفلاحين، ونسب هذه الفئات إنعكست بفروق متباينة في قيادات تلك القوى والاحزاب ، منها ما ظهرت عليها بوضوح درجات عالية من التنظيم أمراض العمل الفوقي وبيروقراطيته، نتيجة تباعد عقد مؤتمراته وهي جاءت بالتعيين، وعدم السماح للاجيال المتعاقبة بتولي الهيئات القيادية ، وإعاقة تقويم مسارات هذهالاحزاب والقوى والفصائل، التي يفترض أنها ثورية ، وكل ذلك ناتج عن ترسب الماضي والمحيط الاجتماعي في ذهنية وسلوك القيادة ، ومنها العائلية والمحسوبيات والتكتلات مما يؤدي الى تعزيز طبيعة النزوع الفردانية والتسلط على قيادة الأحزاب والقوى والفصائل في اغلب الحالات.

ان النزاعة الفردية والتسلط الفردي في قيادات بعض الأحزاب والقوى إلى حد إصدار قرارات توريثها أو تحولها إلى ملكيات عائلية، لا تختلف عن مظاهر الإقطاع السياسي لتمثيل فئات أو طوائف أو نخب، قبلت المساومة لقبول هذا الزعيم أو ذاك، فبايعته وورثت حزبه، وعزلت غيره من الخصوم، ومنها من إرتضت بتسلط عائلته من بعده وصيةً بشكل مُطلق على الحزب او التنظيم وتراثه واملاكه وماليته وحتى مغانمه السياسية، بما فيها توريث النفوذ السياسي والمُحاصَصَة باسمه.

لقد أفرزت التحولات الاجتماعية في مرحلة التحرر الوطني تشكيلات ونخب سياسية خاضت غمار العمل الثوري لأجل إنجاز التحرر التام من الاستعمار والاحتلال، حيث واجهت بعض الأحزاب مهام النضالات الوطنية والنضالية والاجتماعية ، وكان اسلوب النضال هو التركيز على التنظيم والادارة باعتبارها تعني المساواة واحترام ارادة الاكثرية وصيانة حقوق الاقلية وذلك من خلال المساءلة والشفافية التي تحكم العلاقات الداخلية، ولا يمكن إلغاء تلك الحقوق بما فيها حق التعبير وحق الاعتقاد وحق المشاركة وتولي المهام العليا للحفاظ على الدور الوطني المطلوب .

صحيح إن الأحزاب والقوى وأفكارها قد صيغت حينها من قبل مجموعات غير متجانسة فكريا وأيديولوجيا وطبقيا، وحتى إجتماعيا، بسبب تفاوت إنتماءاتهم وثقافاتهم ضمن طاقم التأسيس لكن الأمر امتد طويلا لهذه النخب، قبل أن تفرز تلك الفئات ظروف التبلور والفرز الاجتماعي والصراع الطبقي الكامل نتيجة لتداخل بنيات المجتمعات العربية مجموعات من قوى ومجموعات من الافراد غالبا ما ظلت تنتسب بولاءاتها إلى خارج البُنى التنظيمية والسياسية التي انضمت اليها، فهي جاءت تعبيرا عن استجابات لقوى اجتماعية في بعض الاحيان بعيدة عن التقارب مع الهوية الفطرية التي يحملها الحزب او التنظيم، ولتلك القوى رؤى وتوجهات واجتهادات عديدة، ممكن ان تؤدي لاحقا الى صراعات في حياة الحزب او التنظيم الداخلية، حين تتصادم التوجهات والإرادات وطموحات بين صفوف القيادة او الهيئات القيادية بغياب الديمقراطية كليا ، سواء في اتخاذ القرار أو وضع البرنامج المطلوب أو تجديد القيادات عند الضرورة، لهذا ظلت كثير من الأحزاب والقوى تعيش أزماتها.

واذا عدنا الى الخلف او ما نراه اليوم حيث نرى غياب في بلورة أفكار التنظيم السياسي وتوجهاته، نتيجة تسلط قيادات على امور الحزب او التنظيم، وهذا ناتج عن غياب تفعيل الممارسة الديمقراطية ، وعقد المؤتمرات ، وعدم التشدد بالاحتكام الى ممارسة مبدأ " المركزية الديمقراطية" التي تمنع القيادات من ممارسة التفرد والسطوة والدكتاتورية في التسيير التنظيمي او الاستئثار بقيادة العمل التنظيمي مهما كانت النتائج ، لأن التفرد ينتج الى تدمير التنظيم او الحزب ذاته والعمل السياسي الوطني والقومي برمته مما يستدعي مواجهة من يحاول ان يستثمر اي حزب او تنظيم بعقلية الوصاية، لانه ليس عقارا او ملكا شخصيا وعائليا .

أن مشروع الاستنهاض يحتاج الى التجسيد العملي ، بل إنه الترجمة التفصيلية لعناوين مشروع الوطني والقومي وأهدافه، يرتكز على تراث الشعوب المعرفي وهو غني، إن هذه البلورة لا تتم إلا عبر جهد تراكمي منظم تشارك فيه مراكز البحث والدراسات ومثقفون مؤهلون للانخراط في ورش عمل حول هذا الأمر، كما ينبغي في هذا الإطار التركيز على تعزيز البحث العلمي بكل فروعه، والسعي لتشجيع دراسات ميدانية تمكننا من فهم طبيعة المشكلات والتطلعات لدى الشعوب العربية، كما ينبغي على الاحزاب والقوى التحرك في إطارها لتحصين العمل السياسي والقومي بقدر من الثقافة والوعي تحول دون محاصرته بالجهل أو التسطيح أو التضليل، في هذا الإطار ينبغي توسيع البرامج الثقافية ، وإقامة دورات تثقيفية للشباب وكوادر الأحزاب وجمعيات المجتمع المدني، وإطلاق حملات مكافحة الأمية، كما ينبغي كذلك الاهتمام بالإبداع الثقافي من فنون على أنواعها، والمسرح، والسينما وغيرها باعتبارها الأقدر على إيصال الفكرة أو الموقف لأوسع الجماهير، وفي هذا الإطار يمكن وضع عدّة آليات لتحقيق هذا الأمر. إن ارتباط القوى والاحزاب العربية بالمقاومة، وانخراط قواه فيها، هو أسرع الطرق دون شك ليتحول إلى تيار جماهيري على امتداد المنطقة في مواجهة الهجمة الامبريالية الصهيونية الرجعية وادواتها الارهابية والظلامية ، وتوجيه البوصلة بشكلها الصيحيح نحو فلسطين .

ولهذا لا بد من اعطاء المرأة العربية دورها بعد ان أثبتت جدارة نضالية عالية في أطر المقاومة العربية وفي العديد من الأحزاب والهيئات والمؤسسات العربية ، في هذا المجال ينبغي بذل جهود فكرية وعملية هائلة لتذليل العقبات المرتبطة بمشاركة المرأة، مما يستدعي من الاحزاب والقوى العربية اعطاء الاهمية لقضية المرأة العربية وتحويل دورها بالفعل إلى تيار شعبي كاسح، وان يتم اتخاذ قرارات شجاعة وجريئة في المواجهة وخاصة ان حركة التحرر العربي دفعت ثمنا فادحا نتيجة ممارسة الأنظمة الاستبدادية التي تعيث بالعباد فساداً وقمعاً واستهتاراً بكل القيم السياسية والأخلاقية.

وإذا عدنا إلى نقطة البدء ، نرى أن إشكاليات الواقع ، تقتضي على ضوء المنهجية الجدلية التاريخية إعادة النظر في الكثير من القضايا وتحليلها تحليلا معمقا للوصول إلى وعي مطابق لإشكاليات الواقع يفرز على المستوى النظري برامج للخروج من هذه الأزمة المستعصية ، وعلى المستوى العملي التكتيك الملائم لإنجاز مهام تلك البرامج, وهذا يقتضي من الاحزاب والقوى العربية والفلسطينيه مراجعة كاملة لكل المناهج والبرامج والمهمات المطروحة علينا, للخروج بفهم جديد يعيدنا إلى دائرة الفعل المؤثر في حركة الواقع ، على مستوى الاستراتيجيا والتكتيك الصحيح الملائم لظروف المرحلة الراهنة ، واعادة تحليل وتركيب كافة القضايا التي تواجه واقعنا العربي ، من أجل النهوض بالاحزاب والقوى العربية والفلسطينية مجددا ، ومن جهة أخرى تقتضي الأزمة المستعصية في الواقع العربي عموماً فتح باب الحوار أيضاً بين مختلف التيارات والحركات الفاعلة على اختلاف مشاربها الفكرية والأيديولوجية اليسارية، والقومية, والإسلامية التنويرية ، إذ رغم الاختلاف على المستوى الإيديولوجي فنحن نميّز بين التيار الإسلامي المقاوم للمشروع الإمبريالي الصهيوني, وبين التيار الظلامي الاستئصالي التكفيري الذي يرفض الحوار ويعتبر نفسه البديل المطلق لكافة التيارات الأخرى الفاعلة في الواقع العربي.

لقد ألهمت تجربة الكثير من القادة المناضلين وأفكارهم وتضحياتهم وعذاباتهم من العمل على تغييرات عميقة في صفوف احزابهم وتنظيماتهم ، في ممارسة الديموقراطية ، واستندت هذه الاحزاب والتنظيمات إلى مواقفهم ومبادراتهم في اشتقاق البرنامج من صلب الواقع وحاجات التغيير، كذلك أقاموا تفاعلاً خلاقاً ما بين قضايا التحرر الاجتماعي والتحرر الوطني وما بين القضايا القومية والقضايا الوطنية والقضايا الأممية.

لكن الأمور لا تجري على هذا النحو الآن داخل الاحزاب والقوى والفصائل،حيث تتسرب النزعة الفردية والفوقية والعائلية إلى مستويات أساسية في مواقعها القيادية والغاء دور الاخر على المستوى القيادي، وكل ذلك ناتج عن عملية منهجية لالغاء التوجهات الديموقراطية والتحررية التي انطلقت من اجلها هذه القوى وكرست نجاحات في الماضي وفرت لها رصيدها الذهبي .

وعلى مستوى الأحزاب والقوى الفلسطينية ، باعتباها حركات تحرر وطني وتختبر شعبيتها ومدى تأييد الشعب لأيديولوجيتها ومبادئها وممارساتها ،فلتوقِف امام اوضاعها وخاصة لجهة اعطاء الامتيازات والمحسوبيات لاشخاص لم يمتون الى القضية بصلة الا من اجل المنافع وتسلق الهيئات القيادية لانهم من عائلة فلان او من المحسوبين على هذا القائد او ذاك، وحرمان المناضلين حقوقهم في الاعتماد والرتبة والراتب ، لذلك نقول ان الانتماء لحركة التحرر وللثورة يجب ان يبتعد عن النزعة الفردية والفوقية والعائلية حتى تتمكن هذه الفصائل والقوى من القيام بدورها وبذل المزيد من العطاء والتضحية، كما يفترض عليها كحركة تحرر وطني ان تتمسك بالمشروع الوطني وبخيار المقاومة وحماية منظمة التحرير الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني المشروعه، ليس الهدف من هذا النقد،التشهير بالقوى السياسية القائمة، لأن أدوات الصراع لا يمكن أن تتجسد في أطروحات مثالية لا سند لها ولا تعتمد على موقف يتسم بالراديكالية تجاه المصالح العليا للشعب الفلسطيني، فالوسطية التي اتخذتها الاحزاب والقوى الفلسطينية منهجا لها شجعت قوى الانقسام على المضي في سياساتها من خلال الاستخدام والاستبعاد وذلك ضمن التوجه الذي يضمن مصالح وتستخدمها متى أرادت وتستبعدها متى شاءت.

ان تفاعلات الأحداث في المشهد السياسي الفلسطيني تعطينا المزيد من الإشارات أننا سنبقى ندور في حلقة الصراع المفرغة طالما بقيت الفصائل الوطنية واليسارية تتخذ موقفا سلبيا توفيقيا من الأزمة الراهنة ، ويصادر موقفها ودورها التاريخي المفترض أن تلعبه مع قوى المجتمع الديمقراطي للجم قوى الفلتان والظلامية والفساد، وقد يعتقد البعض أن هذه القوى والفصائل عاجزة عن القيام بدورها ولكنني اقول بكل صراحة أن الشارع الفلسطيني يتوق لقوى حقيقية تقف في وجه قوى الفساد والانقسام، وقد تكون الفرصة مواتية إذا عقد العزم على مواجهة تلك القوى.

امام تفاعلات هذا المشهد التي تعطينا المزيد من الإشارات حتى لا يبقى دور الاحزاب والقوى والفصائل في حلقة الصراع المفرغة طالما بقيت هذه القوى غير متحدة ويصادر موقفها ودورها التاريخي المفترض أن تلعبه من اجل تعزيز الديمقراطية الفلسطينية والحفاظ على منظمة التحرير الفلسطينية وتفعيل مؤسساتها وحماية المشروع الوطني ، ولجم قوى الفلتان والظلامية والفساد والمحسوبيات ، وبلورة مشروعها المجتمعي الذي يؤسس لنظام سياسي فلسطيني ديمقراطي ينهض على أسس وقوانين عصرية ناظمة لحياة المجتمع، وتحقيق العدالة الاجتماعية لكل المناضلين وفئات الشعب الفلسطيني ، من اجل استكمال مشروع النضال بكافة اشكاله الذي يتطلع اليه الشعب الفلسطيني الذي يواجه أعتى أشكال الاحتلال التي أفرزها عالمنا المعاصر ، وهو الاحتلال الصهيوني الاستيطاني الذي يريد أن ينفي شعبا بأكمله ويحل مكانه على أرضه وثرواته وتاريخه.

ختاما : لا بد من من العمل الجاد من أجل تجديد البنية الداخلية لكافة الاحزاب والقوى الفلسطينية، وتجديد آليات عملها وأدواتها الكفاحية على كل المستويات الفكرية والتنظيمية حتى تكون على مستوى المهمات الجسيمة والاستحقاقات القادمة، و لا بد أن تحافظ على المكتسبات التي تحققت للشعب الفلسطيني عبر تضحياته الجسام ونضالاته طويلة، وأهمها،الحفاظ على الوحدة الوطنية الفلسطينية وانهاء الانقسام البغيض، واستثمار جميع الطاقات، بوصف الشعب الفلسطيني له حقوق سياسية معترف بها دوليا، وعلى رأسها حقه في الحرية والاستقلال والعودة.