فتح وصيةٌ واجبة الأداء لا تركةٌ متنازعٌ عليها

بقلم: أحمد إبراهيم الحاج

كلمات موجوعة في مناسبة الإنطلاقة

قال تعالى: «من بعد وصية توصون بها أو دين» وقال تعالى "من بعد وصية يوصي بها أو دين" ، يرى الفقهاء أن هذين النصين جعلا الميراث حقًا مؤخرًا عن تنفيذ الوصية وأداء الدين، وقالوا إن تقديم الوصية على أداء الدين ليس للحقيقة وإنما هو لتقوية مشروعيتها فى مواجهة الورثة المتنازعون الذين يكرهونها بسبب تأثيرها سلبًا على نصيب كل واحد منهم، لذلك يرى بعض الفقهاء تقديم تسديد الدين على الوصية. ولكن النص صريح في تقديم الوصية والله أعلم. وقد شرع الله الوصية لتكون الباب الذي ينصف الأحفاد الذين توفي والدهم في حياة جدهم لأنهم أيتام وقد أوصى الله كثيراً على حق الأيتام وركز على فظاعة جريمة أكل مال اليتيم ، وبالعقل والمنطق فإن لم ينصف الجد أحفاده بوصية الأيتام لولده المتوفى في حياته، فقد وجب على القضاء الشرعي إنصافهم من باب مشرعية الوصية، لا بل إعطاءهم حق الوريث وصدقة اليتيم التي تجب على أعمامهم.

سواءً كان الدين مقدماً على الوصية وحق الورثة أو العكس (الوصية مقدمة على الدين والميراث)، فإن الدين الفلسطيني ما زال قائماً، ديناً على الأبناء تجاه الأرض المغتصبة وتجاه تضحيات ودماء الآباء والأجداد، ووصية الشهداء مشروعة وواجبة الوفاء.

منذ أن أنطلقت فتح وليداً رأى النور في الفاتح من كانون الثاني عام 1965م، وتطبيقاً عملياً لفكرتها التي كانت جنيناً كامناً في رحم كل أم فلسطينية سواءً على الأرض الفلسطينية أو في مخيمات الشتات أو في المهاجر، كانت مخاطر الإسقاط تتهدد هذا الجنين من كل حدب وصوب، من القريب ومن البعيد، لأن حجم المؤامرة الدولية على فلسطين كان عاتياً وكبيراً جداً كالسيل العرم يجتاح في طريقه الضعف العربي ويطوعه لمساره بكل يسر وسهولة. وظلت فتح تتعرض لمحاولات الإحتواء تارة والتمزيق والشرذمة والتشظي تارة أخرى، لأنها كانت التعبير الصادق عن طموحات الشعب الفلسطيني بكل فئاته وألوانه والذي كان يصعب الجهر به والتعبير عنه صراحة، وكانت معبرة عن أماني الشعوب العربية قاطبة والأمتين الإسلامية والمسيحية العربية، ولأنها أجتُرحت من عقول ووجدان وأجساد طبقة نخبوية متعلمة ومثقفة وواعية من الشعب الفلسطيني، في عصر مظلم من الجهل والأمية كان يكتنف ويلف الأجواء العربية آنذاك، طبقة نخبوية آثرت السير في طريق الزهد والكفاف الملفوف بالمخاطر من أجل الوطن وحريته وإستقلاله على السير في طريق المال والأعمال الذي كان مشرعاً أمامها لأنها كانت تتسلح بالعلم والشهادات العلمية الرفيعة والوظائف الواعدة بمستقبل مالي يغري كل نفس بشرية تتبع أهواءها. فالتف حولها الشعب الفلسطيني مسيجاً بالشعب العربي، ومحاطاً بالتعاطف والتكاتف الإسلامي والمسيحي العربي، ومدعماً بالحق الإنساني المنصوص عليه في كل الشرائع السماوية والوضعية لمن ألقى السمع وهو بصير.

واستطاعت فتح بهذا الزخم الشعبي وبدماء الشهداء الشرفاء أن تتخطى كل العقبات والعوائق والمؤامرات التي حيكت ضدها من أجل تمزيقها كمقدمة لاندثارها والخلاص منها، وعلقت الجرس وعبدت الطريق الوعر لكل الفصائل الفلسطينية التي ولدت من بعدها قديماً وحديثاً، وغيرت نظريات المؤامرة على فلسطين وشعبها، وقلبت المفاهيم العالمية المغلوطة والمضللة عن القضية الفلسطينية، وضحدت مقولة أرض بلا شعب، وأجبرت أعداءها العتاة على الإعتراف بها وبحقوق الشعب الفلسطيني في الأرض الفلسطينية. وعانت فتح كثيراً في مسيرتها وأخطأت وأصابت شخوصها لأنهم بشر معرضون للوقوع في الخطأ ما زالوا يجتهدون ويعملون، وتعرضوا للنقد والتجريح من القاعدين المتفرجين، ومرضت وتعافت فتح في شخوصها ولكنها كفكرة ظلت نقية طاهرة في نفس كل وطني شريف وما ضلت الطريق الى الهدف يوماً ما.

لذلك فإن فتح الفكرة والهدف هي وصية الشهداء الأبرار من القادة العظام والكوادر الشرفاء وهي واجبة التنفيذ، مهما مرضت وتمارضت الشخوص، وهي ملك ووقف من أوقاف الشعب الفلسطيني، لأنها هي الخيمة الكبيرة التي ظللت الشعب الفلسطيني بأغصانها وأوراقها وقت محنته وتستطيع أن تورفه بظلالها. وهي ليست تركة للنزاع عليها بين الورثة، وهي ليست شجرة للتسلق عليها من أجل قطف ثمار ما زالت فجة ونيئة ولم يحن قطافها، فتح الفكرة ليست مناصباً يتنافس عليها الوصوليون.

تتكرر هذه الأيام محاولات شق فتح وتمزيقها، ويكثر الإستقطاب السرطاني من الأقارب والأغراب، ويتنافس الوصوليون على من يرثها ويستحوذ عليها، ويحرم الشعب الفلسطيني من حقه فيها، ويخون وصية الشهداء ليلوث الفكرة ويصيبها بالمرض والسوس. والشعب الفلسطيني لا ينقصه طعن الخناجر المسمومة في الظهر من القريب، ويكفيه طعن الأعداء بالصدور، وهو بحاجة الى اللحمة ووحدة الصف، وليس بحاجة إلى انقسامات سرطانية فوق الإنقسام والشرخ الكبير الذي يعاني منه، ليزيده يأساً وإحباطاً حتى يصل الى مرحلة الكفر بفلسطينيته مما يؤدي الى تصفية القضية وشطبها.

من كان لديه مشروعاً وطنياً مكفولاً ومقروناً ببرنامج زمني واضح يحقق طموح الشعب الفلسطيني في هذه المرحلة الصعبة فليرث فتح وما عليها ويرث كل التنظيمات الفلسطينية من جبهات وحركات وسنبارك له كل المناصب والزعامات. ومن ليس لديه مشروعاً وطنياً مكفولاً فكفانا نظريات وخطب واتهامات وتخوين ومزايدات وانقسامات لا طائل منها. ومن يتفرج على الميدان والعاملين فيه متسلحاً بنظريات وطنية تطرق على أوتار العواطف الجياشة لعامة الناس لكنها عصية على التحقيق في إطار المعادلات الدولية، وتتسبب في مزيد من هدر الدماء الفلسطينية دون رجاء في قطف الثمار، فليصمت لأن السكوت من ذهب في عصر كثر فيه التشويش والكلام الذي يصم الآذان دون تطبيق عملي.