سافرت قصراً وتركت خلفي حنينا للديار واهل انتظروا العودة ومازالوا ينتظرون ولكنها لم تأتي ,, سافرت وعشت الامل تجرعت مرارة الغربة وتفانيت في عزّة وتقدمت بين عاوقب الدهر وتهت وتاهت معي بوادر المحبة اشتقت لشارع من شوارع المدينة العتيقة اشتقن الى زقاق من ازقة المخيم تعذبت وحلمت وتبعثرت بين الروابي , معالم الاحلام استنشقت عبير الارض وتلعثم اللسان وضاعت بين الضلوع بشائر الوطن .. اليوم ومن غير سابقة انذار استكين بين رحى روتين قاتل يعيد ذاكرتي ملامح زنازين الوطن يستذكر في الاعماق ايام خلت كانت قاسية قساوة الدهر كانت معالمها بين جدران السجن وعذابات السجان كانت رحلة في سجن غزة المركزي إبّان الاحتلال الاسرائيلي للقطاع وكنت آن ذاك شاب في ريعان الشباب احلم كما يحلم ابناء جيلي ينتظر حلاوة النصر وفرحة الحرية ....
ايام خلت كانت في زنازين الغدر الصهيوني وربما الكثير من ابناء جيلي ومن تلاهم يعلم جيدا عناوين تلك الزنازين وارقامها وعذاباتها واخص بالذكر هنا زنزانة 26 ..زنزانة الموت السريري , الزنزانة التي يختنق الهواء بداخلها وتتلاشى فيها معاني الحياة , زنزانة لمن لا يعرفها لاتزيد عن المتر والنصف طولا والمتر الواحد عرضا ولا منفس بها أو نهوئة ..حقيقة كان يوما قاتلا وكانت عذابات التحقيق في زمن الصيف القاتل ايام ولالي مع تعدادها بلغت الثمانية عشر يوما يعيشها السجين وقوفا مكتوف الايدي تغطي رؤوسنا ووجوهنا غطاء كريه الرائحة خانق اختناق الموت بين الضلوع , كل من عايش مراحل سجن غزة يعرفها وتذوق طعم مرارتها ....
ثمانية عشر يوما بلا نوم وقوفا واكيد من عاشر تلك الايام يعرف ما اقول وما اكتب وهناك من كان له الصمود المميز والذي بقي واقفا صامدا اكثر من 36 يوما متتالية , بعد ثمانية عشر يوما من العذاب تمّ إنزالي الى غرف زنازين النوم ففرحت فرحة لا تضاهيها فرحة وحلمت بليلة هانئة ونوم عميق ينسيني عذابات الايام الخوالي , استبشرت وليتني لم افعل فكانت ليلة الفاجعة وكأن معالم الموت بدَت مرسومة على جدرانها .. يوم فتح باب تلك الزنزانة الكريهة كان يوما لاينسى ولحظة من لحظات التوغل في اعماق الموت , شعرت وكأنني ادخل الى فرن من افران الخبز المحمر او محرقة من محارق الموت الهندية او ربما سادخل باب جهنم قبل الاوان .....
بالداخل كان هناك ثلاثة هياكل بشرية او اشباح رجال يفترشون الارض قعودا ربما كانوا ينتظرون الزائر الجديد وكنت انا ذاك الزائر المرهق , أدخلت تلك الزنزانة وأغلقت الابواب وبدأت معها رحلة العذاب الليلي .. يبدوا ان الاخوة كان لديهم من الخبرة مايكفيهم في التعامل مع تلك الحالات او ربما كانوا يعلمون يعلمون طبيعة القادم وحالته الصحيّة والنفسيّة .. بداية وتلك حقيقة ترك لي الاخوة شركاء العذاب نصف مساحة الزنزانة لكي استلقي على ظهري رافعا الأرجل عاليا لانني لم اكن التحرك او حتى الجلوس نظرا للتورم الذي اصابهما نتيجة الوقوف الطويل .. طرحت ارضا جثّة هامدة , مباشرة قام الاخوة باحضار كأس من الشاي البارد الذين ادّخروه لمثل تلك الحالات , قاموا بتدليك اقدامي بخبرة وذكاء تلك كانت اللحظة الاولى التي شعرت بها ومن ثم غبت عن الوعي ولا ادري ماحدث بعد ذلك .....
استفقت من تلك الغيبوبة حوالي الساعة الثانية صباحا وكأن الارض أُطبقَت على انفاسي اكاد ان اختنق فلا هواء ولا اكسجين ورطوبة المكان تزيد عن الحد المقبول فنهضت من غيبوبتي ابحث عن نسمة عابة تنعش رئتي ولكن جميع المنافذ مغلقة وكانت بارقة الامل الوحيدة التي فتحت لي طريق عودة الروح الى الجسد أثَر بقايا مسمار خلع من مكانه , وضعت فمي بتلك النقبة استنشق بعض ما يمكن من الهواء الخارجي .. بقيت على هذه الحال حتى صباح اليوم التالي , انتظرت عودة رجال التحقيق باحثاً عن بداية عذاب يوم جديد , افتعلت حالة من الهستيريا داخل الزنزانة املا في العودة الى رواق التحقيق وعذابات المحققين التي كانت في الواقع ارحم بكثير من تلك الزنزانة الحقيرة او كما سمّاها احد الاخوة غرفة الموت وفعلا تم أخذي الى رواق التحقيق ليبدأ من جديد سيناريو عذاب الوقوف الدائم .. شعرت حينها وكأني في حديقة غنّاء نظراً لنسمات الهواء المبرّدة القادمة من غرف التحققين .. تحمّلت عناء الوقوف راغباً ولكن لم تطول الى ان تم انزالي الى زنزانة اخرى .. كانت اكبر بكثير من سابقتها كانت الزنزانة رقم 23 طولها ثلاثة امتار وعرضها متران فيها اثنان وانا ثالثهم كانت بالنسبة لي وكأنها غرفة فندق خمسة نجوم مقارنة بسابقتها ....
بعد صحوتي وعودتي الى ذاتي كانت الليالي بين الاخوة في الزنازين ليال سمر وغناء وكان اجمل ما سمعت فيها اغنية لاخ من عائلة النجار لا داعي لذكر الاسم الاول , كان يغني بصوته الشجي والجميل وكانت اغنيته المفضلة لفريد الاطرش تقول كلماتها ,, العمر قضيتو حزين مهموم اهرب من هم الاقي هموم على دمع انام على دمع اقوم واقول ده مصيب وقدر مكتوب يارب ايه العمل في حكمتك يائس ومالي امل غير رحمتك ليه الظلم ليه ليه القسوة ليه ليه يارب ليه ..... كان صوت اخينا هذا بلسماً يداوي الجراح رغم عناء السجن وظلم السجان إلّا انها كانت ايام من اجمل ايام العمر رغم صعوبتها ورغم العناء الذي كنّا نتكبده كانت ذلك في صيف عام 1978 تاريخ حفر بالذاكرة ,تلك كانت بعض تفاصيل أيّام خَلَت .. فقط هذا ما هو المسموح في الحديث عنه واكيد هناك الكثير ممن عايشوا تلك الفترة وشاركوني عذاباتي وشاركوني فرحتي ايضا يوم خروجي من المعتفل ...
امنيتي اليوم العودة الى ارض الوطن وامنيتي ايضا زيارة تلك الأماكن أماكن العذاب والصمود هذا ان كانت مازالت باقية على الأرض معالمها وللحديث بقية حول قصة عذاب او رحلة نضال يكتبها سجين اليوم في بلاد الغربة .. اليوم أعيش حياة سجين والسجن مشرعة ابوابه ولكن الموت على الابواب ينادي عذابات اليوم وروائع الامس البعيد ...
الكاتب عطية ابوسعده / ابوحمدي