قصة/ لم تنته الحرب

بقلم: مازن صافي

لم يكن من السهل فراق المكان أو الخروج من الزمان أو حتى الانتظار .. كان كل شيء قابل لكل شيء .. وتلك السيدة المريضة "الضيفة" القادمة من مخيمات الموت في سوريا تنظر إلينا ولربما تعود بها الذاكرة القريبة للمخيم المدمر وللجثث الملقاة في الطرقات وللحرائق وللأحزان .. وكأن كل الجغرافيا فتحت على الموت مرة واحدة ولا قرار ..

وتلك الأسرة التي استأجرت الطابق الأول من منزلنا حزمت أمرها مبكرا وخرجت تحمل ما خف وزنه، وأسرعت للنجاة من هجمة الموت المحقق .. بيتنا محاط بحديقة جميلة فيها كل أنواع الزهور والفواكه .. وفجأة وجدنا الحديقة وكأنها نار تحترق والتصقنا جميعا في غرفة واحدة "مهجورة" في الطابق الأرضي في انتظار المجهول .. ورائحة الموت تقترب والانفجارات تعلو فوق كل صوت .. وبنبرات متقطعة وبانفعال ملحوظ ومفرط قلت للجميع : "علينا أن نخرج الان قبل فوات الأوان " .. وجهزنا الكرسي المتحركة للسيدة " الضيفة" .. ولن نتمكن من استخدام السيارة الخاصة بنا .. لابد من الخروج مشيا على الأقدام حتى بلوغ الجهة الأخرى .. وبدأ الجميع في تهيئة نفسه بالخروج .. وحين خرجنا بضع خطوات خارج المنزل اكتشفنا أن زمن الدمار قد سبقنا واننا بالكاد سنجد العشرات قد قرروا مثلنا "متأخرين" أن يخرجوا .. كانت الغالبية من الجيران والأهالي قد خرجوا وربما وصلوا وربما أصابهم "مكروه" .. وكأننا نرسم سيناريو خاص بخروجنا الخطر والذي بدأ للتو .. كان الوقت عصرا .. وكان الدخان يغطي المكان .. وكانت القنابل تتناثر حولنا وكان الصمت والخوف والبكاء والصراخ أحيانا لغة مشتركة بيننا جميعا .. نحن إذن في قلب المعركة .. ومشينا تحت القصف والموت لمدة لا تقل عن ساعتين حتى وجدنا أنفسنا بجانب أنقاض بناية مدمرة وكان ذلك قريب الغروب .. ولاحظنا ان شجيرات الياسمين التي تتدلى لتغطي أسوار الطريق قد قطعت وحرقت .. وذلك السور العالي لم يعد موجودا وإنما متناثرة حجارته لتغلق الطريق الرئيسي ..

كانت السيدة العجوز تبكي وكأنها تشفق علينا ونحن نتبادل قيادة كرسيها المتحرك .. وحتى ابننا البالغ عشرة سنوات قد حصل على "دور" في ذلك .. وكانت تدندن بأغنيات حزينة "تقطع القلب" .. وواصلنا المسير تحت وقع حياتنا المهددة والرعب الذي دب في كل القلوب .. وكنا مع بعض العائلات قد شكلنا مجموعة من خمسين شخصا بيننا أطفال ونساء ورجال طاعنين في السن .. ودخلنا مسجد قريب أيضا ووجدنا عدة سيارات من الإسعاف والإغاثة وبعض الشباب يقدمون المساعدات ويضمدون بعض الجروح .. وبدؤوا في إخلاؤنا جميعا من المكان .. ووصلنا بعد عشرة دقائق إلى إحدى المدارس وكان الوضع كارثي .. وهناك افترقنا .. وتم توزيع السيدات في مكان والرجال في الساحات وأما الأطفال فكانوا بيننا وبين أمهاتهم .. وبدأت عملية توزيع المشروبات والأطعمة والأغطية وبعض الملابس ونقل البعض إلى المستشفيات القريبة ... واستمر ذلك عدة أسابيع .. وحين عدنا بعد انتهاء الحرب المدمرة .. كانت الأجواء الفكرية والحضارية  والكروم واشجار الحمضيات والمشمش والبيوت قد دمرت تماما وكأننا قد عدنا إلى مائة عام أو أكثر .. وبدأت المأساة مرة أخرى .. أين سنذهب وكيف نكمل الحياة .