الاختلاف هو سنة من سنن الحياة فطر الله رب العزة الناس عليها الأمر الذي يتضح جليا في قوله تعالى "ولو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة ولا يزالون مختلفين"، فالاختلاف بين الناس حول قضية ما أو موقف ما أو مشكلة ما إنما هو بلا شك أمر طبيعي ومنطقي ومحمود ولا تشوبه أية شائبة، ففي ظل اختلاف طبيعة البشر واختلاف الثقافات واختلاف العقول واختلاف المفاهيم، فلا يمكن لأي عاقل أن يتوقع أن تتطابق آراء الناس حول ما يواجههم من قضايا ومشكلات، بل إن الاختلاف سيظل هو سيد المشهد حتى قيام الساعة.
اعتقد جازما أن لا مكان في هذا الكون يخلو من مظاهر الاختلاف بين الناس، كما اعتقد جازما أيضا أن اختلاف الناس في آرائهم إنما هو بكل تأكيد حاجة مجتمعية ووطنية وأخلاقية وقيميه، وأن قبول الآخر المختلف والحوار العاقل المبصر إنما هي ركائز أساسية ومحورية لحل كافة مشاكل وقضايا وهموم الناس، وأن تطور المجتمعات الإنسانية وتقدمها وخدمة الصالح العام وتعميق معاني ومبادئ وقيم الديمقراطية فيها إنما يقوم بالأساس على قاعدة الاختلاف في آراء الناس في ظل سيادة أجواء النقاش الموضوعية والحوار البناء والنقد والفكر المستقل بما يساهم في الوصول إلى أفكار جديدة بل إلى حلول إبداعية لما تواجهه هذه المجتمعات من قضايا ومشكلات. كما اعتقد جازما أن المجتمعات الناجحة إنما هي تلك التي تفهم فلسفة الاختلاف وتملك الرغبة والإرادة والقدرة على تطبيقه والتعامل معه واستثماره وتوظيفه لتحقيق الأهداف الوطنية والاجتماعية، وهى التي يؤمن الناس فيها بمقولة ""رأيك صحيح يحتمل الخطأ، ورأيي خطأ يحتمل الصواب"، ومقولة "أن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية"، وهى التي يؤمن الناس فيها بأن الاختلاف إنما هو أداة رئيسية تبصرهم وتنورهم وتمكنهم من التمييز بصوت مرتفع بين ما هو حق وما هو باطل، وبين ما هو صواب وما هو خطأ، وبين ما هو نافع وما هو ضار، وبين ما هو نجاح وما هو إخفاق وفشل، وهي تلك أيضا تلك المجتمعات التي تنجح في صهر الاختلافات فيها في بوتقة واحدة ومن ثم توجيهها مباشرة من أجل البناء والرقى والتقدم حاضرا ومستقبلا، .... الخ
في ضوء ما تقدم، أقول، وباختصار شديد، فلقد نجح المتقدمون في حل مشكلاتهم وقضاياها بل وهاهم يتسابقون في مراثون الحضارة الإنساني مستندين بالأساس على قاعدة الاختلاف الواعي والمبصر فلسفة، وثقافة، ورغبة، وإرادة، وتطبيقا، وهذا لابد أن يجعلنا نشعر بكل معاني الخجل والأسى والحزن الشديد والعميق ونحن نتابع طبيعة وشكل وطريقة الاختلاف في الآراء حول قضايانا ومشكلاتنا وعبر سنوات طوال من عمر قضيتنا المركزية وحتى يومنا هذا مع شديد الأسف. لا ضير أن تختلفوا يا سادة حول مشكلاتنا وقضايانا وهمومنا فهذا يحترم ويقدر ويثمن، ولكن لماذا هذا الاختلاف الكفيف؟ لماذا هذا الاختلاف العبثي؟ لماذا تغيب الحكمة في غياهب التعصب الأعمى؟ لماذا رفض الآخر المختلف فقط من أجل الرفض؟ لماذا امتشاق كل أدوات وسائل إذكاء التكتل حول الرأي؟ لماذا التطبيل والتزمير والصوت المرتفع؟ لماذا القدح والردح؟ لماذا نشر غسيلنا أمام كل منابر الكون؟ لماذا الاستهزاء والاستخفاف والانتقاص من قدر الآخر المختلف؟ لماذا الحقد وكراهية الآخر المختلف؟ لماذا المناكفات ولماذا التناحر؟ لماذا السب والقذف والشتائم والتخوين والاتهامات من العيار الثقيل؟ ..... الخ.
الخطير والمؤسف والمؤلم في المشهد أيضا أن فجور الاختلاف لم يفلح في إيجاد حل أو حتى تقليل أو تخفيف حدة أيا من قضايانا ومشكلاتنا وهمومنا الوطنية والاجتماعية بكافة أنواعها وأشكالها وألوانها ومستوياتها وأحجامها وأعمارها، أما الأكثر خطورة فيتمثل في تراكم قضايانا ومشكلاتنا الوطنية والاجتماعية وما يعنيه هذا من تعقيدات وصعوبات إضافية أمام أية جهود مستقبلية لحلها، الأمر الذي يتطلب من الجميع دون استثناء بغض النظر عن مواقعهم سواء كانوا في قمة الهرم الاجتماعي أو قاعدته وما بينهما بسرعة قراءة المشهد بطريقة متأنية دقيقة وموضوعية ومن ثم استخلاص العبر في طريقة الاختلاف القائمة، مع أهمية الاستفادة من تجارب الذين نجحوا في استثمار الاختلاف وتوظيفه لتحقيق التقدم والازدهار في مجتمعاتهم، بما يضمن لنا خروجا مشرفا من دائرة "المفعول به" إلى دائرة "الفاعل" القادر على مواجهة تحدياتنا الحاضرة والمستقبلية غير التقليدية من خلال أدوات غير تقليدية.