كان شابا وسيما يعمل بالتعليم بينما كان يركب سيارة أجرة في المقعد الأمامي ،بجوار السائق ..والذي كان يقود السيارة بسرعة متوسطة ،نظرا لأن الوقت ،حينها يشهد حراكا مزدحما ،حيث تتكدس حركة طلاب المدارس ،وينشط الباعة المتجولين كذلك في ذات الوقت أولئك الفقراء ،والذين هُم كُثر في بلادنا وفي بلاد العرب أوطاني إنهم جميعا يجوبون الطرقات طلبا للرزق ،المهم أنه جرى حوارا بينه ،وبين السائق حيث قال ..إلى متى تستمر الأزمات والإضرابات والإغلاقات، واستمرار الحصار الخانق في ظلال أوضاعنا الداخلية الصعبة والقاسية التي تفترس ساحتنا الفلسطينية بكل بشاعة ..وإلى متى تستمر انقساماتنا،والتي لاتُبشر أجواءها الغائمة بالاتحاد أوالاتفاق ،وبناء المستقبل ..ابتسم السائق ابتسامة ساخرة حزينة ، حيث قال بصوت ٍ مخنوق أي مستقبل وأي بناء هذا الذي تتحدث عنه يا سيدي وسط انقساماتنا الشريطية التي تهلك الحرث والنسل ،وأي بناء هذا ..وهناك طوابير من خريجي الجامعات، وحملة الشهادات العليا يصطفون كباكيتات السجائر أو المعسل على أرصفة الشوارع أو الأزقة الضيقة.. ضيق حياتنا ..!!وإن كانت هذي الباكيتات هي أوفر نصيبا منا .. لأن هناك من يرأف بحالها فلا يروق له أن يراها ملقاة بهذا الشكل المهين خلف نوافذ زجاجية صغيرة ..أما أولئك القوم بكل أسف ،وأقصد بقولي الطبقة المتعلمة فقد .. آلت بهم ظروفهم البائسة ليعملون بالخضرة كعمال التراحيل ..فيقطفون البندورة،أو حبات البطاطا أو الباذنجان ..حقا لا يعلم مرارة الجوع إلا من ذاق وبال أمره ..رد عليه ذاك الشاب بشيء من الغرابة متسائلا ..عمال التراحيل ..؟! ماذا تقصد بقولك ..رد السائق : ياعزيزي ..عمّال التَّراحيل هم فئة من العمال لا تستقر في مكان، بل تسافر من مكان لآخر للقيام بعمل قصير الأجل أو موسميّ كالفلاَّحين أو عمَّال البناء في مصر،ألم تشاهدهم في الأفلام القديمة.. لكن كل ما أخشاه أن تستمر سياسة الأبواب المغلقة للوظائف في بلادنا..فيبقى الوضع الراهن على ماهو عليه ،فحينها فقط ستكتفي مدارسنا وجامعاتنا بتصدير أفواج أهل العلم لتزج بهم عنوة في مثل تلك الأسواق ..!!قال له الشاب .. لكن عفوا ..وهل كنت تعيش في مصر..؟! قال السائق : نعم لكن لِما هذا التساؤل.. رد عليه ،وقد استطرد بالحديث لكن قل لي .. ما رأيك ..هل لمحت تغيرا ولو يسيرا لأوضاعنا بعد الحرب الأخيرة ..رد السائق وقد بدت عليه ملامح الكآبة ..وكيف نأمل بأن تتغير أحوالنا والكل يردد اليوم مقولة يوم القيامة نفسي.. نفسي..!! فلا إعمار ولا بناء ولامعابر ولا غاز ولا كهرباء..إن هناك أنهيارا جسيما يضرب البلاد ،ويتساقط سريعا كالثلوج وسط المنخفضات ، فوق رؤوس العباد ..لكن المأساة في بلادنا مستمرة لا تتوقف مشاهدها الفظيعة ،وأما المنخفضات فهي استثنائية عميقة كالقادمة من جزيرة قبرص ،والتي يُتوقع بأن تضرب فلسطين والشام بقوة في الأيام القادمة إن قدّر الله سبحانه.. فمثل هذي المنخفضات .. تبقى عابرة تمر مرور الكرام لأنها معلومة المصدر ،لكن منخفضاتنا ومنغصاتنا الحياتية طويلة حلقاتها ،مجهولة الهوية ..وفجأة توقف السائق حيث اصطف على أحد جوانب الطريق ..نادى على بائع السجائر ،وحدثه بالانجليزية ..ضحك البائع المسكين والذي لا يدري ما يقوله السائق له.. لكنه قال بعفوية وذكاء.. المهم آخر الكلام أنت تريد علبة سجائر رويال ..أليس كذلك ..؟ّ! أومأ السائق برأسه ،وحينها تدخل الشاب قائلا لكنك تتحدث الانجليزية بطلاقة وتعمل سائقا بالأجرة..رد عليه السائق ..صدقني لم أقصد الاستعراض أوالتظاهر بأني متعلما إنما من الضيق الذي يعتصرني ويكاد يفتت صدري وكل كياني .. فأنا حاصل على ماجستير لغة انجليزية جامعة عين شمس ،ومنذ أن آتيت إلى أرض الوطن ،لم أحصل على أي وظيفة إلى الآن ..!!