يتمتع الفرد في كل الدول والمجتمعات بحقوق وحريات معينة، ويستوي في ذلك دول الشرق والغرب ودول الشمال والجنوب، فالفرد له حقوق وحريات معينة في كل زمان ومكان، بغض النظر عن الأيدولوجيات والفلسفات السائدة، ومهما كان النظام السياسي المتبع، وإذا كان الشعب هو صاحب السيادة، فهو يفوض هيئة حاكمة نيابة عنه لممارسة تلك السيادة، ومن الطبيعي أن تخضع تلك الهيئة الحاكمة للقانون في نظام الدولة القانونية التي تحترم القانون في كل ما تقوم به من تصرفات والتدخل في علاقات مع الغير، ولما كانت الدولة تهتم بالتوفيق بين الحق والحرية والمصلحة العامة، فإن مهمة الدستور هي تنظيم التعايش السلمي بين السلطة والحق في إطار الدولة، لذلك فإن الدستور يعد حجر الأساس لصيانة حقوق الأفراد وحرياتهم من تجاوز السلطة التي وجدت أصلاً لصيانة هذه الحقوق والحريات، ولما يعد القانون الأساسي الوثيقة العليا في النظام الدستوري الفلسطيني لما له من قدسية وسمو على ما دونه من قواعد قانونية في النظام القانوني للدولة الفلسطينية لأنه يتناول المبادئ العامة والفلسفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يتعين انتهاجها من جميع السلطات العامة في الدولة، ولكون الحقوق أغلى القيم المرتبطة بشخص الإنسان وحياته، فقد كان من المنطق أن يكون مكانها الطبيعي صلب القانون الأساسي، فالسلطة موجودة لضمان الحقوق والحريات من خلال التنظيم الذي يؤدي إلى الابتعاد عن الفوضى المؤدية إلى ضياع الحرية وعودة الاستبداد.
وباعتقادي أنه مما يجب التأكيد عليه أن الدساتير لا تعد منشئة لحقوق الأفراد، بل هي مقررة أو كاشفة عن هذه الحقوق، لذلك يترتب على سمو النصوص الدستورية التي تقرر الحقوق للإنسان التزام الدولة بإصدار القوانين التي تكفل ممارسة وحماية الحقوق بما يتفق وأحكام الدستور، وبالتالي يكون كل نص تشريعي أو لائحي يهدر أو ينتقص من حقوق وحريات الإنسان متعارضاً مع الدستور غير نافذ لكونه غير دستوري، كما أنه يفرض على الدولة ضمان تلك الحقوق التي قررتها النصوص الدستورية وتحقيق مصلحة الفرد فيها، كما أن الدستور لا ينال احترامه إلا إذا كفل الحقوق للأفراد، فالدولة لا يكون لها نظام دستوري إلا إذا كفلت الحقوق والحريات العامة للأفراد في دستورها، ومن هنا يتوجب على السلطة التشريعية وهي تسن القواعد القانونية أن تقررها على مقتضى أحكام الدستور، فإذا تجاوزت حدود المبادئ الدستورية المقررة في الدولة كان ذلك انحرافا منها في أدائها لوظيفتها، واعتبر تشريعها غير دستوري، وقد تضمن القانون الأساسي الفلسطيني العديد من المبادئ المتعلقة بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وخصوصاً الواردة منها في الإعلانات والمواثيق والاتفاقيات الدولية، وأفرد القانون الأساسي الباب الثاني تحت عنوان الحقوق والحريات العامة ولم يميز بين ما يعتبر حقاً وما يعتبر حرية، فقد اشتمل على مجموعة الحقوق والحريات العامة التي يتمتع بها الفلسطينيون والضمانات التي تكفل ممارسة هذه الحقوق والحريات، ومع ذلك نلاحظ أن من أهم المعوقات التي تحول دون ممارسة الأفراد لحقوقهم هو أن القوانين الفلسطينية تنظم ممارسة الحقوق بشكل يفرغ معظم هذه الحقوق من مضمونها، كما أن البعض الآخر من الحقوق مقيدة بعبارات النظام العام أو الآداب العامة، وهي في الواقع مفاهيم واسعة المقاصد والمعاني، ومن ثم يصعب ضبطها أو تحديدها، مما يسمح للسلطة التشريعية بالتفسير أو التأويل كما تريد، لذا وجب أن يحدد الدستور القادم عدم جواز فرض أي تحديدات أو تقييدات على الحقوق لغير الأهداف التي وضعت من أجلها، والأخذ بما لجأت إليه الدساتير الحديثة بوضع ضوابط تفصيلية على المشرع العادي تحد من تدخله لفرض قيود لم يصرح بها الدستور، وأن تكون معظم المواد المتعلقة بالحقوق والحريات العامة بصيغة إلزامية وليست بصيغة عامة، وأيضا أن لا يكون تقييد ممارسة أي من الحقوق والحريات الواردة في هذا الدستور أو تحديدها إلا بقانون أو بناء عليه وأن لا يمس ذلك التحديد والتقييد جوهر الحق والحرية، وكل تقييد لحرية أو حق أساسي تبرره المصلحة العامة يجب أن يخضع لرقابة القضاء، كما أنه يجب أن يشدد الدستور أن جميع الحقوق تتمتع بالحماية وهي غير قابلة للتجزئة، وأن جميع الحقوق تتمتع بنفس القدر من الحماية في الدستور، وتكون مكفولة وقابلة للإعمال على قدم المساواة، وهذا سيعكس الوضع المتساوي لجميع حقوق وحريات الأفراد، وأن يجعل للنصوص الخاصة بالحقوق والحريات العامة قدسية مطلقة وقوه أعلى من باقي مواده، فلا يجوز تعديلها أو استبدالها أو المساس بها تحت أي ظرف من الظروف ولا بأي طريقة من الطرق باعتبارها من خلق النظام الاجتماعي، وليست وليدة إرادة المشرع .
والحقيقة أن مشكلة الحقوق بشكل عام ليس النص أو عدم النص عليها في الدستور، بل التناقض بين النص والواقع، فالعبرة ليست في النصوص وإنما بما يجري في الحياة العملية، وهذا ما نجده في مجتمعنا الفلسطيني في ظل وجود الانقسام الجغرافي والفكري والسياسي بين شطري الوطن بأن تطبيق القوانين هش وضعيف ويتماشى مع مصالح المسئولين ويسعى للتغطية على تجاوزاتهم، فكل أجهزة الحكومة تكون تحت التأثير السياسي وتابعة للسلطة العليا فالحلقة كاملة مغلقة لا يمكن الدخول للمحاسبة والرقابة، ويتم التحايل على القوانين وتغيبها بشكل مقصود، وما يتبع ذلك من قمع واستبداد سياسي وإهانة المواطن في كيفية التعامل مع حقوقه وحرياته في مواجهة الحكومة، وإصرار رجال الحكومة على كتم الأنفاس وتعاظم دور أجهزة الأمن بأشكالها الوفيرة في مصادرة الحريات وتدخلها في ممتلكات المواطنين وتقييد تحركاتهم وتنقلهم، واعتداء على حقوق المواطنين ورفع السلاح في الصدر الفلسطيني من الزناد الفلسطيني، واعتقال لحرية الرأي والتعبير، واستغلال للمناصب وارتفاع أرصدة بعض المسئولين، وهيمنة الأفراد على المراكز والإدارة كأنها شركة خاصة يملكوها، وضياع للقيم الوطنية والوحدوية وتشويه لمفهوم المقاومة وحق تقرير المصير، ونسيان لموضوع الأسرى في سجون الاحتلال، وصمت عما يدور من تهويد للقدس والاستيطان في الضفة الغربية، وغير ذلك مما عم به البلاء بسبب الانقسام وفساده الذي توغل للنفوس وجعلها لا تبصر الواقع وتلاحقه فبل ضياعه.
لذلك نرى أنه بات الامر ضروريا وخاصة بعد تشكيل حكومة الوفاق الوطني الاسراع في توحيد مؤسسات الدولة وأجهزتها المختلفة وإعادة بنائها على القيم السليمة لتكون حامية مدافعة عن أبناء الوطن الواحد، وجعل المصلحة والوحدة الوطنية فوق أي ضغوط خارجية أو محاولات للابتزاز السياسي، والعمل على سن القوانين التي تزيد من حماية مصالح المواطنين وحقوقهم والمصالح الوطنية العامة وبما يتفق مع الاتفاقيات والمواثيق الدولية وتعزيز مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث وتفعيلها، واصلاح القضاء ومنح الأفراد وبنص صريح حق الطعن في دستورية القوانين، هذا الحق الذي تقرر في الأصل لضمان حقوقهم .