بكل بساطة يستطيع المواطن العادي قراءة المشهد السياسي الفلسطيني الراهن من غير عناء تقوده نحو مربع الإحباط أوحالة اللامبالاة في أحسن الأحوال ، أمام ضبابية الرؤيا السياسية المُربكة بل الملتبسة ، في الوقت الذي تحتم دقـّة المرحلة تحصين الجبهة الداخلية وتجنيد أقصى الطاقات والجهود للمواجهة الكبرى "معركة كسر العظم " إذا صح التعبير ، معركة القدس عاصمة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة الكاملة ، معركة حق عودة اللاجئين الى ديارهم وفق قرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي وليس شيئاً أخر بعبارة أخرى هي حرب التحرير والعبور إلى فضاء الحرية ، لهذا فإن بناء استراتيجية جامعة تقوم على الشراكة الوطنية المسؤولة لا الإستفراد في اتخاذ القرارات المصيرية باتت ضرورة مُلحّة لابد منها تخاطب عقل المواطن الفلسطيني أولاً كونه يشكّل السياج الوطني الحامي الذي سيتحمّل تبعات وأعباء أي إجراءات عقابية جماعية ظالمة قد تفرضها سلطات الإحتلال الإسرائيلي التي دأبت على الإبتزاز الرخيص والقرصنة والسطو على المقدرات الفلسطينية مايمسّ مباشرة جوهر مفردات سبل الحياة الإقتصادية والإجتماعية والسياسية .
ثم يليه مخاطبة المجتمع الدولي المسؤول مسؤولية كاملة عن مأساة الشعب الفلسطيني وما لحق به من عذابات وعدوان مستمّر طيلة مايقارب سبعة عقود ليس أخرها جريمة الحرب العدوانية بامتياز على قطاع غزة المنكوب بكل المقاييس ، في ظل العجز المخزي الذي أصابه أزاء جبروت طغاة العصر الحديث وحُماتهم في البيت الأبيض الأمريكي الشريك الإستراتيجي الداعم لكيان الإحتلال ، بالرغم من تفهُم الشعوب الغربية مؤخراً للمعاناة الفلسطينية واعتراف العديد من البرلمانات الأوروبية غير الملزم لحكوماتها بالدولة الفلسطينية بعد استخفاف حكومة الإحتلال بكل القيم والمواثيق الدولية وإفشال مساعي التسوية السياسية مايستدعي أن ترتقي هذه الدول إلى مستوى تطلعات شعوبها وتسارع بالوقوف إلى جانب عدالة القضية الفلسطينية والإعتراف الفوري بالدولة الفلسطينية المستقلة دون لبس أو مراوغة إذا كانت مستعدّة لتصحيح الظلم التاريخي الذي وقع على الشعب الفلسطيني .
لعّل ماحدث من جلبة أثناء تقديم مشروع القرار الفلسطيني القاضي بإنهاء الإحتلال إلى مجلس الأمن الدولي الذي شابه المتناقضات والمثالب شملت النص الأصلي والمعدّل أيضاً بإدخال نصوص مبهمة يكون بمثابة فرصة لتصويب الثغرات وماتلاها من تداعيات داخل الأطر الفلسطينية خاصة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية حيث ضعف دورها مؤخراً ، وفي كل الأحوال لم يحصل مشروع القرار الفلسطيني العربي على الأصوات اللازمة لتمريره وكان سيواحه الفيتو الأمريكي الذي استخدم أكثر من خمسين مرة ضد حقوق الشعب الفلسطيني ، إذ نجم عن ضغوطاتها الهائلة على بعض الدول ومنها نيجيريا تراجعاً عن وعودها في اللحظات الأخيرة قيل أن صفقة مشبوهة تمت لازالت أثارها تتفاعل على المستوى الداخلي النيجيري لكشف الملابسات المحيطة بالقرار الذي أدى إلى خروجها عن توصيات منظمة المؤتمر الإسلامي لصالح اسرائيل ، بينما ساد الصمت المطبق النظام الرسمي العربي حتى من باب رفع العتب بالإشارة إلى موقف الإدارة الأمريكية .
تحديات جسام غير مسبوقة ستحدّد معالم المرحلة المقبلة بحلوها ومرّها التي لاسبيل عن خوض غمارها إما باتجاه تجسيد الكيانية الفلسطينية على أرض الواقع وفق الثوابت والحقوق الفلسطينية التاريخية والسياسية والمرجعيات الوطنية وهو ليس بالأمر السهل خاصة بعد التوقيع على الإنضمام للعديد من المعاهدات والإتفاقيات الدولية في مقدمتها الإنضمام لمحكمة الجنايات الدولية الذي وصفته الإدارة الأمريكية وحليفتها الإستراتيجية بالسر والعلن بمثابة إعلان حرب لكنها عادت واعتبرت أن فلسطين غير مؤهلة لعضوية الجنائية الدولية لاعتقادها انها دولة غير ذات سيادة وأنها أي أمريكا لاتعترف بها متجاهلة التصويت الساحق في الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل عامين وعزلتها منفردة مع بعض الدول غير المرئية التي عارضت القرار ، أو المراوحة في ذات المكان التفاوضي العبثي إلى مالا نهاية والإذعان لما يمليه الإحتلال من أجل ترسيخ سلطة مُلحقة على مقاسه مسلوبة الإرادة لاتتعدى صلاحياتها حدود تقديم الخدمات البلدية والأمنية التي تعفيه تماما من كـُلف احتلاله ، مايعني التضحية بأهداف المشروع الوطني التحرري إلى الهاوية حيث لاتقوم له قائمة على المدى المنظور .
إن مايدمي القلوب ويضيّع العقول ذلك الإنحداروالإصرار العجيب على ابقاء حالة التشظي والإنقسام الداخلي بعد تشكيل حكومة التوافق الوطني المناط بها إعادة مادمره العدوان على قطاع غزة واستلام المعابر وكذا رفع الحصار ثم الإعداد لانتخابات عامة ، وبدلاً من تسهيل مهامها الإنتقالية وجدت نفسها أمام عقبات التعطيل وسط حضور لغة التخوين الهابطة مثل كل المرات السابقة حين تصطدم حقائق الأمور بالأجندات الفصائلية الدخيلة القادمه عبر الحدود المستندة إلى ثقافة الإقصاء والمحاصصة بل أكثر من ذلك باللجوء إلى أساليب التفجيرات التي تعبّر عن رسائل سيئة لاتمت بصلة لتاريخ النضال الوطني حيث تتقاطع وتتماهى في كثير منها مع لغة اقطاب حكومة اليمين العنصري المتطرفة حتى أضحى كل شيء عرضة للمشاحنات والتناقضات والمناكفات ومرتع خصب لكل من أراد أن يدلي بدلوه المليء بالقاذورات وإشاعة مناخ الفوضى في مقدمة هؤلاء بالطبع المستفيد الأول الإحتلال مصدركل الشرور .
بينما تسابق حكومة أقطاب التطرف الزمن ، تطرح الحقوق الفلسطينية لمن يثبت أنه أكثر عدوانية وشراسة في سوق المزايدات والتنافس الإنتخابي لسرقة الأراضي الفلسطينية وإجراءات هدم المنازل وتغيير الواقع الديمغرافي وسياسة التمييز العنصري والتطهير العرقي "المقوننة" بالجملة لخلق واقع جديد في القدس يشمل المقدسات الإسلامية خاصة المسجد الأقصى الذي يتم استباحته من قبل الجهات الرسمية وزراء وأعضاء كنيست وحاخامات بدعم كامل من أجهزة الأمن ومؤسسة الجيش تمهيداً لتقسيمه زمانياً ومكانياً ينسجم مع مشاريع "الأسرلة" وفرض سياسة الأمر الواقع فضلاً عن استهداف بقية الأراضي الفلسطينية التي يتم فصلها بشكل ممنهج يمنع بموجبها التواصل الجغرافي بين الجنوب والوسط والشمال الفلسطيني أخرها انشاء معبر يجري العمل به حالياً لم يلقى بالاً من أحد عند مدخل وادي النار المعروف "الكونتنر" المؤدي إلى مدينة بيت لحم وجنوب الضفة الفلسطينية عموما في لحظة انشغال الجميع بالبحث عن مكاسب فصائلية وسلطوية لايملكون من أمرها شيئا .
لقد حان وقت المراجعة السياسية الشاملة التي اعقبت اتفاقيات اوسلو على المستوى السياسي والإقتصادي والأمني بعد الدمار الكارثي الذي أصاب قطاع غزة حيث طال كافة مناحي الحياة ولا زالت أثاره ماثلة يدفع المواطن البسيط الذي يفترش الأرض ويلتحف السماء ثمناً باهضاً لها نتيجة ارتهانه للحسابات الضيقة ، مراجعة جادة ومسؤولة مختلفة عن الحلول التصالحية الترقيعية التي أثبتت فشل المعالجات السطحية وهذا يتطلب إعادة الإعتبار للمؤسسات الفلسطينية وتطويرها والإستعداد التام لما هو قادم ابتداءاً من مطلع نيسان حين تصبح فلسطين عضواً بالجنائية الدولية ، كما جاء على لسان الأمين العام للأمم المتحدة يتمنى الجميع أن يكون تاريخ الأول من نيسان قد جاء صدفة لأنه مرتبط بمناسبة .... لايرجوها أحد !!!