العديد من اللقاءات والمقابلات أكون حاضرًا فيها من جميع الألوان الفلسطينية، وعلى كافة المستويات سواء في المجالات الأكاديمية، أو السياسية، أو حتى الشعبية، سواء كانت قيادية أو قاعدية، أو حتى منظمات المجتمع المدني، وحقوق الإنسان ورواد الإصلاح، والديمقراطية، وحرية الرأي، استمع في معظم الأحيان، وأشارك في البعض، وبأغلب الأحيان أكون في موقف دفاعي، بما أنني مهاجم من الكل بسبب الانتقادات الموجهة للعديد من المسلكيات، أو القرارات أو حتى الأفعال غير الصحيحة من وجهة نظري -على أقل تقدير- وليس هنا مربط الفرس، بل هو بالكلام المعسول، والشعار المغرور الذي يزين كل هذه الحوارات أو النقاشات التي تهاجم في معظمها القمع، الظلم، السلوك الخاطئ، وخاصة على صعيد الرأي العام، والحريات، والحدود الصوابية في الفعل، وهو ينقح القريحة، ويجعلك تقف مندهشًا قائلأ: هناك أمل، ما دام الجميع مجمع أنه لابد من إطلاق الباب واسعًا لحرية الرأي والتعبير، كظاهرة صحية تحت مسمى الديمقراطية، أي أن حدود الفساد أصبحت في درائة ضيقة جدًا، ومعرضة للإنزواء إن انتهت هذه الدائرة، وتجمع أو تكالب عليها الكل... ولكن في لحظة ما تصاب بصدمة أكثر من الدهشة عندما تجد أن من ينتقد الآخرين، ويطالب بحرية الراي يحاول قمع أي انتقاد يوجه له، أو محاولة تقويم سليمة تطرح من مثقف هنا، أو شخص هناك، بل تجد هجومًا كاسحًا بل والفاجعة الحقة أن هذه المسميات سواء الحزبية أو المؤسسات المدنية تشكل في داخلها دوائر رصد، وتقصي ومتابعة لما يقال، ولما يكتب، ليس بهدف الرد المنطقي الموضوعي أو المعالجة بل من أجل ضم أكثر كمية من الأسماء للقائمة السوداء "بلاك ليست" وهي دوائر أشبه بأجهزة الأنظمة الرسمية الاستخباراتية مع عدم امتلاكها للسيادة، أي الاعتقال والتحقيق، والاستدعاء، ولكنها دوائر تخزن وتؤرشف لمنتقد لحين ميسرة، ويكون ضمن الحلقة المغضوب عليها.
هذا في واقعنا الذي يطرح منذ نصف قرن حتمية وضرورة التخلص من الأنظمة البوليسية التي تضغط علينا، وتقودنا لمجتمع تجسسي فاقد الثقة بنفسه وبمقوماته البشرية، وفق مبدأ احذر من زوجتك التي بفراشك وهو نفس الحال ينطبق على منظمات حقوق الإنسان، المنادية بحرية الرأي، وإطلاق الحريات العامة، والخاصة، فإن مسست أحد قاداتها أو مسؤوليها، يثور ثورة، ويخرج عن شعاراته، وأهداف مؤسسته، ممّا يؤكد إننا نواجه بنيوية نفسية استرزاقية فقط، لا تؤمن بما تطرح أو تنادي، وهو يطلق السؤال الأعم، ما هي حدود الفساد؟
حدود الفساد ليس في السلطة الرسمية الحاكمة، بأجهزتها السيادية، والأمنية، وقوة الإجبار التي تمتلكها، بل هي حدود وراثية وفق المنهج الثقافي التربوي الذي يبدأ من الأسرة التي تخضع للسلطة الأبوية التي لا يمكن لها أن تتساوق مع منهج الشراكة، والتبادلية التشاورية، ومنح الحرية الفعلية في داخل البناء الأسري، حيث لا بد أن يهز الابن رأسه دون أن تتحرك شفتاه أمام والده، ولا بد أن توافق الفتاة على الزوج الذي يتناسب وتفكير وقناعة الأب، وعلى الزوجة السمع والطاعة، وبارك الله "بالمراة المطيعة" وفروض الطاعة هنا على الحق والباطل، كل ما عليها أن تبدي ايماءات هز الرأس بالموافقة، والتبصيم. هذه الحدود تنطلق من المجتمع الأسري المصغر إلى المجتمع المدرسي الأكبر، حيث السيادة الأبوية التربوية من مدير المدرسة الذي يفرض فروض الطاعة على المدرس أولًا، والأخير ينفلها بدوره التقليدي للتلميذ والطالب، ودومًا المقلد يفعل أكثر من الفاعل الأصلي لأنه يريد أن يميز تقليده، وتنتقل الثقافة(أو ثقافة الفساد) من الأسرة للمدرسة، انتقال ميكانيكي، من شب على شيء شاب عليه، ومن ثم إلى الجامعة بنفس الميكانيكية، حيث يصبح الطالب الأكاديمي مقلدًا أكثر منه منتجًا فسيتذكر كل ما تلقنه من طفولته في كنف الأسرة الأبوية ثم المدرسة ثم الجامعة مبدعًا في البابوية الثقافية التي أصبحت جزءًا من مفاهيمه وتركيبته الثقافية، يزيد من عمقها الواقع والتربية الدينية القائمة على الاستعباد التربوي، وغسل الأدمغة، حيث أنها أي التربية الدينية نسخت التفكير العقلي من مناهج الدعوة، والتعليم، فأصبحت تربية دينية مغلقة بعض الطاعة فقط، ما بين الجنة والنار، نعم أو لا، فيحمل هذا النشىء كل هذه الوقائع التربوية معه إلى مؤسسته سواء الوظيفية أو المجتمعية أو الأكاديمية, وعليه فإن صور الفساد تنتقل بالتداول, والتواصل من جيل إلي جيل ... وفق مفاهيم تربوية عامة, وخطوط لا يمكن تجاوزها, وهي ما تفرز العصبية المجتمعية, وتجلياتها الحزبية, الطائفية, المذهبية, العشائرية فتتكاثر, وتتوالد مسلكيات الإقصاء والقمع والإضطهاد ثم ترتقي للقتل بأساليب التفجير، الذبح والحرق، التمثيل بالإنسان، دون أي وازع يمنع ذلك لأن المبررات والنوازع مكتسبة فطريًا من بيئة، يحيط بها وبعمقها حدود الفساد الأساسية، وهي تلك الحدود التي تهيمن وتسيطر على الباحث والمثقف، والأكاديمي، والحزبي، وقادت وفق هذه الأصالة ثورات ما يسمى الرّبيع العربي نحو الفوضى، وإعادة إنتاج الديكتاتوريات السابقة بشخوص ومسميات أخرى، وهو الدور الذي لم تستطع الشعوب العربية الخروج عنه، لأن ثقافتها محددة مسبقًا ومتأصلة، فاسد تعرفه خير من فاسد لا تعرفه، على نهج حواراتنا مع بعض الأخوة منذ زمن بعيد عن تعيين اللصوص أو غض النظر عن لص من القيادة الفلسطينية، فكان يرد عليك ببداهة "اللص الموجود حاليًا شبع" ولكن لو أردت أن تأتي بشخص جديد فأنه يسرق أكثر لأنه يريد أن يشبع" هكذا عرفت أن القانون القيادي في منظمة التحرير الفلسطينية كان يسير، قناعة ثم حقن الوعي البشري بها، ليجد مبرر مؤدلج لقانون الفساد، واستمراؤه في حالتنا العربية عامة، وهو ما يعمم على كافة قوى المجتمعات العربية سواء الحاكمة أو المعارضة أو التي تدافع عن حرية الرأي، أو تلك المؤسسات الممولة أوروبيًا لتعلم الشعوب العربية الديمقراطية والحرية وهي مؤسسات تناظر الديمقراطية، وحرية الرأي، والحريات في حين أن معظم هيئاتها، ومسئوليها يتم فرضهم بالتعيين، والتزكية، والواسطة، ولا يمكن زحزحته عن مقعد أو مقود القيادة إلا الموت، وانقطاع أنفاسه، وتتم الخلافة بالتوريث أو بالإسنخلاف أي المبايعة من المسؤول لمن يخلفه، حرصً على المكتسبات المادية التي تجنى من هذا الكنز الديمقراطي...
نحن هنا ننقل حدود الفساد نقلة تأصلية وتواصلية، وراثية، تربوية، من جيل لجيل لا يمكن حصره بمسلكيات معينة ومحددة، وإنما ضمن دائرة ثقافية كعبادة اللات والعزى لأجدادنا في الجاهلية، دين الآباء والأجداد...
د.سامي محمد الأخرس
13يناير(كانون ثان) 2015
[email protected]