الإنسانية تبحث عن نفسها في فلسطين الجريحة

بقلم: نعمان فيصل

الإنسانية كلمة راقية وعميقة المعاني والأبعاد، وهي بوصلة البشرية للرقي والارتقاء والسمو بالأخلاق والفضيلة، وهي جزء رئيس في تكوين الإنسان منذ خلقه الله وسواه، فكانت الإنسانية جوهر تكوينه وتركيبه، حيث جعلها الله في وجدانه. ولا يمكن لكائن من كان أن يدرك أهمية الإنسانية وضرورة توفرها، والعمل على الارتقاء بها, أو أن يعي قيمتها المعنوية إلا من حرم منها نتيجة عوامل وظروف أحاطت به، وحرمته قسراً من معانيها النبيلة.

ويأتي الشعب الفلسطيني في مقدمة شعوب الأرض، الذي يقدر الإنسانية ويفهمها حق الفهم؛ لأنه حرم منها أول مرة حين تآمرت عليه قوى الاستعمار؛ لالتهام ممتلكاته وخيراته، وكان وعد بلفور حجر الزاوية للمشروع الصهيوني في فلسطين، حيث تمثل فلسطين الوجه الحقيقي لجناية الاستعمار وغدر المؤامرات الدولية على الشعوب.

إذ لم تكن أوضاع الشعب الفلسطيني الاجتماعية والسياسية مهيأة لإيجاد الحركة النضالية القادرة على رفع الظلم، فأشكال النضال التي مارسها الشعب بين المقاومة والانتفاضات الثورية العنيفة وصولاً إلى العمل السياسي والدبلوماسي لم تكلل بالنجاح، وعلى الرغم مما حفل به نضال الشعب الفلسطيني من بطولات وتضحيات، ورغم تواصل حلقاته دونما أي انقطاع، والشعور الجارف بإنسانيته وهويته فقد فشلت حركته في جميع مراحلها الحاسمة، فأغتُصبتْ أرضه، واقتلع الشعب من ترابه الوطني وشرد في مختلف بقاع الأرض، وعاش حياة اللجوء والشتات والغربة، وحل محله شعب آخر، ينعم اليوم بخيرات اغتصبها ومقدرات سيطر عليها بالقوة والقهر دونما أدنى اعتبار للإنسانية.

في فلسطين تم اغتيال الإنسانية، وإهدار الكرامة، لذا فالشعب الفلسطيني ما أن بدأ يستعيد توازنه من خلال بداية نضاله ضد الظلم والاستبداد وانتهاك الإنسانية؛ حتى كان من أوائل الساعين لخدمة قضية الإنسانية؛ فالإنسانية لها معنى واحد تماماً كما للدم لون واحد، فمنذ تبلورت هوية الشعب الفلسطيني السياسية والوطنية، خاصة في ستينيات القرن العشرين، شارك الشعب الفلسطيني في رفد الإنسانية في مختلف الميادين بأعماله المجيدة وجهوه الممتازة، بما يستطيع ثقافياً وأيديولوجياً، من خلال انضمامه لكل المواثيق والمؤسسات العاملة في هذا المجال، من لجان حقوق الإنسان والدفاع عن الحريات، والمشاركة الفاعلة في المؤتمرات، التي تعقد لنصرة قضايا الشعوب، التي مرت بمثل الظروف التي مرَّ بها، وتنادي ببسط الإنسانية والعمل على تقوية أواصر العلاقات الإنسانية بين الشعوب، وكان لإسهاماته علامة بارزة لأنها إسهامات صادقة ونابعة من الوجع الذي أصابه، وما يزال جراء استمرار الإنسانية المنتهكة وحقوقه الضائعة. وواصل الشعب الفلسطيني جهوده في الحضارة الإنسانية، على الرغم من الشدائد والمحن وتفاقم الخطوب التي تعرض لها، حيث أعداد كبيرة من الجاليات الفلسطينية، التي هاجرت إلى أمريكا وروسيا وأوربا وأستراليا.. ووصلوا إلى أعلى المراتب العلمية في علوم الفضاء (ناسا)، وشتى علوم العلم والمعرفة، ومنهم من انتخب للمجالس النيابية في تلك البلاد. وساهموا في تأسيس جمعيات صداقة فلسطينية في معظم أنحاء المعمورة، كان لها الفضل في تعريف العالم بالحق الفلسطيني، وفي فضح الانتهاكات الإسرائيلية. وتأثير إيجابي على قضايانا، في صدور قرار محكمة العدل الدولية، الذي أدان جدار الفصل العنصري، وفي تصويت 138 دولة مع الحق، ومع فلسطين كدولة غير عضو بالأمم المتحدة. ولا أدل على ذلك من التعاطف الدولي المتزايد في الوقت الراهن مع القضية الفلسطينية، وما تشهده البرلمانات الغربية في تصويتها بأغلبية كاسحة - وإن كان رمزياً - بالاعتراف بفلسطين دولة مستقلة.

إن قضية الشعب الفلسطيني، هي في الأساس قضية إنسانية بحتة؛ بل إنها قضية الإنسانية جمعاء، ويتحتم على العالم إنسانياً وثقافياً أن يأخذ بيد الشعب الفلسطيني، كي يتمكن من استعادة كرامته وإنسانيته، حتى تتحقق له العودة وتقرير المصير وإقامة دولته المستقلة. حينها يطمئن البائسون، ويستبشر الآيسون إلى مستقبل أفضل في نظام إنساني قائم على العدل والحق والمساواة. وحري بنا أن نتذكر دائماً قول فاسيلي زركوفسكي: (عساه أن يتذكر، ولا ينسى عندما يرتفع يوماً إلى عرشه السَّامي أن أسمى الألقاب، وأقدسها طرَّا.. هو لقب الإنسان).