ها هي صحيفة "شارلي إيبدو" الأسبوعية الفرنسية تصدر طبعتها الأولى بعد الهجوم الذي استهدف عددا من محرريها ورسامي الكاريكاتير فيها، وها هي تصدر وعلى صفحتها الأولى رسم للنبي محمد (ص)، وتصدر بثلاثة ملايين نسخة، وبعدة لغات، منها التركية، لتوزعه مع جريدة (حمهورييت المعارضة) كما جاء في موقع (Franch 24) الإخباري، إضافة إلى أن التلفزيون الفرنسي الرسمي يسخر من النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كما تداولت ذلك مواقع إخبارية متعددة، فما دلالة كل ذلك؟
إن هذا يعني أن المسألة قد خرجت من نطاق "حرية التعبير" المتباكى عليها إلى تعمد استفزاز مشاعر المسلمين في شتى بقاع الأرض وليس في فرنسا وحدها بدليل الترجمة إلى عدة لغات وإن لم تكن اللغة العربية من بينها، وكأنها تستهدف المسلمين في تلك الدول التي ترجمت الصحيفة إلى لعاتها ومنها (الإنجليزية والإسبانية) عدا اللغة التركية التي لها وقفة خاصة، إن ذلك سيعمق الشرخ ويزيد النار اشتعالا ويجعل الحكومة الفرنسية كذلك مسؤولة مسؤولية مباشرة عن هذا الفعل الإجرامي الجبان، فهي كذلك لا تأبه ولا تهتم لمشاعر مواطنيها وغير مواطنيها من المسلمين، وظهرت أنها أكثر عنصرية وإرهابا، وتسعى بكل مكر وخبث إلى إذلال المسلمين أينما كانوا، وخاصة في تركيا.
ولعلها كانت تقصد اللغة التركية بالتحديد وكأنها ترد على الدولة العثمانية التي منعت عرض مسرحية ساخرة في عام 1890 على مسارح فرنسا وبريطانيا وإيطاليا، فقد جاء الوقت ليردوا على السلطان العثماني عبد الحميد الثاني رحمه الله الذي مات وشبع موتا ولكنهم لم ينسوا، وكيف ينسون وقد ضرب (غوروا) قبر صلاح الدين بعد قرون طويلة من موته وقال له (ها قد عدنا يا صلاح الدين) عندما دخل الفرنسيون مستعمرين سوريا في بداية عصر الاستعمار الحديث (1920).
إن فرنسا لم تحترم أبسط قواعد "المواطنية" التي تنادي بها صباح مساء، ولم تراع الحق في المعتقد والفكر في استهتارها بالمسلمين لسبب أنهم مسلمون عبر رعايتها لتلك الأفعال الغوغائية البعيدة عن الفكر التنويري. إنها بهذه الحماية والرعاية تناقض أهم المبادئ الحديثة التي قامت عليها فرنسا أم التنوير والحضارة. أم أن المسلمين لا تشملهم تلك الأفكار، وهنا تقع فرنسا كلها في شرَك التناقض المعيب!
إن ما حدث ويحدث من أعمال عدائية ضد المسلمين في فرنسا وتغض الحكومة الطرف عنها في حين أنها تجند آلاف العناصر من الشرطة لحماية أماكن تجمع اليهود يضعها كذلك في دائرة الاتهام المباشر في التمييز العنصري بين رعاياها بسبب الدين هذه المرة!
لعل الحكومة الفرنسية ومعها الكثيرون ممن يطلقون سهام حقدهم العنصري والديني على المسلمين لا يتوقعون أن يسلموا من إي أعمال انتقامية تنفس عن ذلك الغضب والذل، وذلك التمييز المقيت، وعليها أن تلوم نفسها أولا قبل أن تلوم أولئك المدافعين عن حقوقهم المدنية في الكرامة واحترام رموزهم الدينية والعقائدية، فقد قالوا: "إنك لا تجني من الشوك العنب"، فليس منطقيا أن يتقاطر المسلمون صفوفا ليقبلوا الأيادي، ويعلنوا الولاء لفرنسا الإرهاب والظلم والتعسف، والتي تنم أفعالها غير المدروسة عن غباء فظيع، وإدخال الجميع في نفق الحرب التي لا تكون عقباها إلا زيادة ما يخشون منه من إرهاب وأعمال عدائية.
هذا ما يخص الفرنسيين المصوَّرين ضحايا للإسلام المتطرف وهم في الحقيقة دعاة التطرف والقتل والعنصرية، فماذا عن حكام المسلمين الذين في أغلبهم مسلمون كذلك، فأين ملوك العرب؟ وأين من شارك بمسيرة باريس؟ وأين سيادة الرئيس الفلسطيني محمود عباس أم أن حنكته السياسية تختم على فيه فخير المواقف الصمت؟ وأين الملكة رانيا التي تسوق للأفكار الحداثية الغربية في المؤتمرات والملتقيات الدولية؟ وأين تلك الجلالة الخائبة المتمثلة في عبد الله الثاني الذي يدعي أنه قرشي هاشمي والرسول الكريم جده؟ وأين الملك السعودي (لا أعرف اسمه) الذي يدعي أنه (خادم الحرمين الشرفين)؟ فمن هو الأولى بالخدمة والحماية البيت أم صاحب البيت؟ أين محمد وأحمد وعلي وووو من الزعماء أم أن الحكمة تقتضي أن يختبئوا في جحورهم كالفئران؟!
إن مثل هذه المواقف وهذه التصرفات تجعلني أنساءل أين نظريات السياسة والفكر؟ وأين دعاة التسامح والفكر المنفتح؟ وأين دعاة حوار الحضارات؟ وأين دعاة الفكر المستنير؟ وأين المدافعون عن حق الشعوب باحترام دينها ورموزها الدينية والوطنية والفكرية؟ وأين كل تلك الأقلام التي سالت دامعة تعلن نصرتها لحرية الصحافة، وتعلن انحيازها للأفكار العصرية ضد الإرهاب والعنصرية؟ وأين أولئك الشيوخ الذين تحدثوا عن سماحة الإسلام أم أنهم لا يعرفون سوى الذل والمهانة؟ علماء سوء وسلطان ومنصب!
وأين ذلك التاريخ المجيد الذي كان فيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قائدا ومكرَّما عند أصحابه؟ أين من يدعون المحافظة على سنة الحبيب المصطفى؟ وأين المسلمون الذي يصلون على النبي كل صلاة، أم أن النبي فقط في الكتب وللنبي ربي يحميه؟ ماذا قدموا لنصرة النبي ونصرة أنفسهم؟ وأين تلك الجيوش المترهلة الخانعة الذليلة؟ أين وأين وأين؟
كل تلك الإسئلة وغيرها الكثير في بال الكثيرين تجعل صرح تلك الحضارة واهيا فكريا وفلسفيا، وعندها فستجد حال الكثيرين يقول: إذا فقدنا كل مقوماتنا الإنسانية في الدفاع عن حقوقنا واحترام ذواتنا ومعتقداتنا ولم يحترمنا ذلك العالم (المتحضر)، فأهلا وسهلا ومرحبا بالإرهاب الفردي والعمليات الفردية التي تنتقم من كل هؤلاء؛ إذ لم يكن في الإمكان أبدع مما كان، وليمت من يموت، فكلهم في السوء سواء، إذ إن تلك الرحى ستطحن الجميع لأن التحدي ما زال مستمرا والغباء مستشريا ضارا يفتك في العقول والأجساد ويفتت الدول ويزيد الأموات موتا والريح هبوباً.. فليحذروا تلك العواقب فإنها والله وخيمة.