الرئيس عباس

بقلم: غازي السعدي

عندما تسلم "محمود عباس" رئاسة السلطة الفلسطينية، قبل عشر سنوات، استقبل تسلمه هذا المنصب بالترحاب والارتياح من قبل الأوساط الفلسطينية والعربية والدولية، حتى أن الحكومة الإسرائيلية خاصة، والأوساط الإسرائيلية عامة، رحبت به، معتبرين وواصفين "عباس" بالرجل المعتدل، الذي يسعى لتحقيق السلام، خاصة لموقفه المعلن ضد المقاومة المسلحة، والأعمال العسكرية، فنجح في ضبط الأمن في الأراضي الفلسطينية، والذي ألقى آثاره على استقرار الأمن في الجانب الآخر، واختار "عباس" المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي، في حل الصراع، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، مستندا إلى مبادرة السلام العربية، وقرارات الشرعية الدولية، والثوابت الفلسطينية، والاتفاقات الموقعة بين الجانبين، وانسحاب إسرائيل إلى حدود عام 1967، بما في ذلك القدس الشرقية، وكانت مفاوضاته في عهد حكومة "أولمرت"جدية ومرنة وكادت تحقق تقدما، إلا أن استقالة –أولمرت- ووصول "بنيامين نتنياهو" إلى سدة الحكم الذي ينتمي لحزب "الليكود" فإن "نتنياهو" وحزبه اليمني لم يكونوا جديين في التوصل إلى السلام، واتسمت هذه المفاوضات بإضاعة الوقت، مع استمرار البناء الاستيطاني بشكل غير مسبوق، فثبات الفلسطينيين في مواقفهم، المتمسكة بمرجعيتها، بدأ "نتنياهو" ووزراؤه وكبار المسؤولين في التحريض على الفلسطينيين، وخاصة على الرئيس "أبو مازن" واصفينه بأنه ليس شريكا في عملية السلام، وضاعفت إسرائيل من حملتها التحريضية ضد "أبو مازن"، خاصة بعد توجهه لمجلس الأمن لإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية، وزاد هذا التحريض في أعقاب توقيعه على الانضمام إلى مواثيق الأمم المتحدة، وبخاصة محكمة جرائم الحرب "لاهاي".

التحريض على الرئيس وتصعيده، وصل إلى درجة اتهامه بإنكار المحارق النازية ضد اليهود في ألمانيا، وجريدة "معاريف 6/1/2015" تلوح بتصفيته، وأن "أبو مازن" متخوف من هذه التصفية حسب الجريدة و "نتنياهو" يهدد ويتوعد ويرفض حضور جنوده إلى محكمة جرائم الحرب في "لاهاي"،"هآرتس 1/1/2015"، وجمد أموال الفلسطينيين التي تجبيها إسرائيل وفقا لاتفاق باريس الاقتصادي للفلسطينيين، ويضغط على الإدارة الأمريكية بتجميد مساعداتها للفلسطينيين، بينما تعارض الإدارة تجميد إسرائيل لأموال الفلسطينيين، حتى أن جهات سياسية وعسكرية بما فيها رئيس الدولة "روبي ريفلين" عارض هذا التجميد، لأن ذلك قد يؤدي إلى انهيار السلطة الفلسطينية، وهذا ما تخشى منه إسرائيل، وكل ذلك للتهرب من استحقاقات السلام، ورفض إسرائيل التوقف عن البناء الاستيطاني، والحقيقة والواقع فلا وجود لشريك إسرائيلي للسلام.

من جهة أخرى، فإن قيادات ومسؤولين وإعلاميين إسرائيليين، يشاركون في الحملة الشعواء ضد "أبو مازن"، متخذين من رسالة الدكتوراه التي حصل عليها الرئيس من روسيا ذريعة، يتهمونه بالتشكيك بأعداد القتلى اليهود في المحارق النازية ورفع سقف التحريض، ففي مقابلة صحفية للرئيس مع الصحفي "عكيفا الدار" عام 2003، عندما ترأس الحكومة الفلسطينية أجاب الرئيس: كتبت بشكل مفصل عن كارثة اليهود، لكنني لا أريد الدخول في الأرقام والأعداد، لكنه اقتبس من الجدل الذي دار بين مؤرخين، فأحدهم قال أن عددهم (12) مليونا، وقال آخر (800) ألف، وأنه لا توجد لدي رغبة في مناقشة الأعداد، إنها جريمة لا تغتفر ضد الشعب اليهودي، وضد الإنسانية، فالكارثة أمر فظيع ولا يستطيع أحد القول أنني أنكرت الكارثة، ومع ذلك فإن اليمين الإسرائيلي ما زال يتهم الرئيس بإنكارها.

هناك إدعاءات بأن "أبو مازن" يتحدث باللغة العربية بطريقة مختلفة عن تلك التي يتحدث فيها للصحافة الإسرائيلية والأمريكية، ففي مقابلته مع فضائية الميادين اللبنانية عام 2013، دافع "أبو مازن" عن أطروحة الدكتوراه الخاصة به، ويقول : إنني مستعد لمواجهة كل من يدعي بأن الصهيونية لم تكن على علاقة مع النازيين قبل الحرب العالمية الثانية، وحسب "عباس" عندما نتناول التفكير الصهيوني، نجد أنهم يؤمنون بالنقاء العرقي اليهودي، كما آمن هتلر بنقاء العرق الآري، وحض اليهود للهجرة إلى فلسطين، وأن "بن غوريون" عراب الحركة الصهيونية، عرف الصهيونية بحركة الهجرة فقط، وأن كل من لا يهاجر من اليهود فهو كافر بالتوراة، وبذلك لا يعتبر يهوديا، ويقول "عباس" في كتابه أنه لم تكن هناك لا سامية ضد اليهود في الدولة العربية، وإن كانت هناك بعض أعمال العنف ضد اليهود، فهي بسبب تدخلات خارجية.

من خلال ما كتبه المستشرق الإسرائيلي "د. آري كوهن"، اتهم "أبو مازن" على الموقع الإلكتروني الخاص به، أن ما قاله بالسابق بأن الكتاب مجرد رسالة دكتوراه منذ عام 1986، لكنه حسب هذا المستشرق، إن "أبو مازن" مستمر بنشر أمور تشوه الحقائق التاريخية، فقد كلف "أبو مازن" باحثين وخبراء فلسطينيين بالبحث والتنقيب، في الوثائق الفلسطينية، والأرشيف الفلسطيني في لبنان، لدراسة العلاقة بين الصهيونية والنازية، كذلك العلاقة بين الفاشية ومنظمة "ليحي" الإرهابية الصهيونية، قبل الحرب العالمية الثانية، وحصل على وثائق ومن ألمانيا الشرقية أيضا، تحدثت عن التعاون بين الإمبريالية الأمريكية والحركة الصهيونية النازية، الذين تعاونوا مع النازيين لإبادة شعبهم في الكارثة، بهدف تسريع الهجرة إلى فلسطين، والحقيقة أن مقالات عديدة كتبت في الصحف الإسرائيلية مؤخرا، تؤكد مثل هذا التعاون بين النازية، وبعض اليهود، وأن الأرشيف الصهيوني يحتوي على وثائق كثيرة، وبدلا من أن يكيلوا الاتهامات لأبناء جلدتهم، وجهوها إلى الرئيس الفلسطيني لخدمة أهدافهم ومصالحهم.

يؤكد الكاتب الإسرائيلي "رونين برغمان" في جريدة "يديعوت أحرونوت 26/10/2014" علاقة التعاون بين النازية والحركة الصهيونية، ويعتبر سيطرة حزب "مباي" "العمل" اليوم على مقاليد الحكم بعد إقامة إسرائيل، أبرزت الخلافات بين "مباي" وبين الإصلاحيين وكشفت عن حقائق كثيرة، ويقول أن شاشة الأكاذيب بدأت تتمزق، فذهل الكثيرون من قيادات الحركة الصهيونية، الذين عايشوا فترة الحرب العالمية الثانية، من التعاون الوثيق الذي كان قائما بين الحركة الصهيونية والنازيين، فأصيبوا بخيبة أمل وإحباط، وأخذوا يكتبون عما شاهدوه وما شعروا به، من الأعمال والجرائم التي نفذتها الحركة الصهيونية، بعد وصول وثائق الرايخ الثالث لأيدي الكثيرين والتي كشفت عن هذه الحقائق، والقول للكاتب "برغمان"، وليس "لعباس".

لمصلحة من يزعم الوزير "نفتالي بينيت" المتورط بمجزرة "قانا" اللبنانية، أن "أبو مازن" هو كبير المحرضين على الإرهاب، ويتنكر لمحارق النازية وشريك لحماس في الحكومة "هآرتس 1/1/2015" فهو لا يريد العودة إلى الوثائق، وقراءة التاريخ ومشاركته في مجزرة "قانا"، فالمهم بالنسبة له اقتناص أصوات المتطرفين في الانتخابات للكنيست، من جهة أخرى واصل "نتنياهو" حملته على "أبو مازن"، وكيل الاتهامات والتحريض له، مدعيا أن ما يقال بأن إسرائيل تريد تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى هي مجرد أكاذيب، وأنها سياسة تحريضية، لرفض "أبو مازن" وجود وقيام إسرائيل "معاريف 6/1/2015"، والحقيقة أن الكذب والخداع يأتي من قبل "نتنياهو"، فالوضع القائم المتفق عليه في الأقصى، بعدم قيام اليهود بدخوله، وعدم التدخل الإسرائيلي الرسمي بالأقصى والأماكن الدينية الأخرى وبإدارة الأوقاف الإسلامية، لكن التدخل ما زال على حاله، وهناك تهمة جديدة يوجهها "نتنياهو" لأبو مازن باتهامه بالتدخل في انتخابات الكنيست، ويوجه النواب العرب لتشكيل قائمة موحدة.

لا يكفي أن إسرائيل محتلة، واستولت على خيرات البلاد، وجمدت أموال الضرائب الخاصة بالفلسطينيين، ولا يكفي أن الولايات المتحدة عارضت المشروع الفلسطيني في مجلس الأمن لإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية، فقد اعترضت أيضا على انضمام الفلسطينيين لمواثيق الأمم المتحدة، ومنها محكمة جرائم الحرب في "لاهاي"، لكن سكرتير عام الأمم المتحدة بان كي مون لم يصغ "لكيري" بعدم موافقة الأمم المتحدة بالانضمام إلى المواثيق ومحكمة "لاهاي"، وهذه صفعة مدوية "لكيري"، وحسب موقع THE RED OF THE REDS NUCLEAR WEAPON هدد وزير الخارجية "كيري" في محادثة هاتفية مع "أبو مازن"، قال له : "ستخسر سلطتك وستخسر نفسك وستخسر حل الدولتين"، لثنيه عن طرح المشروع الفلسطيني لإنهاء الاحتلال، ومع أن الجانب الأمريكي نفى هذه التهديدات، التي لم يصغ لها الرئيس "عباس"، فماذا يريدون من الفلسطينيين لإنهاء الاحتلال، وتحقيق السلام للفلسطينيين كبقية شعوب العالم.

إن إسرائيل تريد معاقبة "أبو مازن"، للتحول الذي نجح به، في اصطفاف المجموعة الأوروبية إلى جانب القضية الفلسطينية، ومهاجمة هذه المجموعة للاستيطان والممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، ومقاطعتها لمنتجات المستوطنات، والتسبب في عزلة إسرائيل، وأدى ذلك إلى انحياز دول عديدة لصالح الفلسطينيين، وأن من أهم إنجازات "عباس" خلال ولايته، تحويل الرأي العام الدولي، ليقف إلى جانب القضية الفلسطينية، التي كانت حكرا لإسرائيل، وتوظيفها المحارق النازية، لصالح مشروعها الصهيوني، مع أنه لا علاقة لا من قريب ولا من بعيد للفلسطينيين في المحارق النازية التي تفعلها هي ضد الفلسطينيين وحقوقهم المشروعة.