قطاع غزة بين المسؤولية الوطنية والسياسات الثأرية

بقلم: محمد أبو مهادي

في سبتمبر 2012 أعلن "روبرت تيرنر" مدير عمليات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين أن قطاع غزة مكان غير ملائم للعيش بحلول العام 2020 بناءاً على دراسة قامت بها "الأنروا" وبحثت في مختلف الجوانب المعيشية للسكان، وفي نوفمبر 2013 قال "جيمس راولي" منسق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة " قطاع غزة يعيش كارثة حقيقة بكل أبعادها وعلى كافة المستويات، وانهياراً متسارعاً للقطاع الخاص بشكل غير مسبوق، مطالباً في الوقت ذاته برفع الحصار عن القطاع "بشكل فوري"، إضافة لجملة من الدراسات والأبحاث التي حذرت من تفاقم الظروف الإنسانية وإنعكاساتها على قرابة مليوني فلسطيني يعيشون ظروفاً تفتقد إلى الحد الأدني من متطلبات العيش الكريم، حيث يستوطن الفقر وتتفشى البطالة إلى جانب كومة من الأزمات المتعلقة بالكهرباء ومياه الشرب وتدني في مستويات تقديم الرعاية الصحية والعلاج..... إلخ.

هذه الظروف التي ُصنعت لقطاع غزة قبل الحرب الأخيرة واستكملت بعدها لتترك ورائها آلاف الأسر الفلسطينية دون مأوى، يطاردهم مصير مجهول بعد كذبة مؤتمر الإعمار التي ساقها الرئيس عباس بموافقة الفصائل والتبشير بإنهاء الحصار عن قطاع غزة، ليطلّ على أهل غزة كابوس" خطة سيري" لمراقبة الإعمار التي بموجبها تم شرعنة الحصار الإسرائيلي وإلباسه ثوباً دولياً يعفي اسرائيل من مسؤوليتها عن تسهيل حركة الإعمار، أيضاً بموافقة عباس وحماس.

منذ إنقسام العام 2007 حتى الآن يعاني سكان قطاع غزة ظروفاً هي الأسواء على الإطلاق في تاريخ هذا التجمع البشري الأكبر من إجمالي اللاجئين الفلسطينيين، ومع كل بارقة أمل في بتغيير الواقع يصاب الناس بإنتكاسة جديدة تبدد هذه البارقة وتزيد من حدة الأزمة مترافقة مع حالة كبيرة من فقدان الثقة بالقيادات السياسية الفلسطينية التي فشلت في إنتشال الفلسطينيين من أزمتهم، ولم تقدم علاجاً لأيٍ من المشكلات الخطيرة التي ضربت المجتمع وأشغلته عن مواجهة الإحتلال الإسرائيلي، بل وساهمت هذه القيادات في زيادة حدة هذه المشكلات عبر جملة من الإجراءات الإقتصادية ذات الطابع العنصري تبنتها ونفذتها حكومة الرئيس عباس جهاراً نهاراً بحق المئات من الموظفين الحكوميين، وطالت مرافق خدمية مهمة كوزارة الصحة حيث نقص الأدوية وحظر التحويلات الطبية وعدم تزويد المستشفيات بالوقود اللازم لضمان إستمرار الخدمة الطبية.

الحروب المدمرة التي نفذتها إسرائيل على قطاع غزة المترافقة مع حصار عمره ثماني سنوات، كانت تستدعي من حكومة الرئيس عباس جملة من السياسات الإقتصادية الهادفة إلى تخفيف معاناة المنكوبين وتعزيز صمود الفقراء والمحرومين، والتأكيد على وحدة الشعب في مواجهة الكارثة، لا أن يعاد إطلاق أكذوبة الإنفاق المالي على غزة وحصولها على 47% من إجمالي موازنة السلطة، في وقت تخفي فيه حكومته البنود التفصيلة لموازنتها تفادياّ لفضيحة حجم الإنفاق المالي على قطاع غزة الذي قدّره إقتصاديون بحوالي 18% بما في ذلك رواتب الموظفين المدنيين والعسكريين، مع العلم أن إنعاش موازنة الحكومة جاءت بفعل الحرب على قطاع غزة بعد أن أعلنت السلطة أنه منطقة منكوبة !

حركة حماس لم تحسن التصرف بشأن عملية المصالحة، أعلنت مراراً أنها خرجت من الحكومة ولم تخرج من الحكم، ولكن هذا لا يعطي ذريعة للرئيس عباس أن يخلي مسؤوليته الوطنية عن كامل قطاع غزة ويعزز من إجراءات إستكمال الإنقسام نحو "الإنفصال" الذي ينتظر إعلان سياسي، ولعّل تصريحات أحد مستشاريه قبل أيام حول مبادرة فتح معبر رفح بعد إجتماع النائب "محمد دحلان" بالرئيس "عبد الفتاح السيسي" ومن ثم هرولة الرئيس عباس إلى زيارة مصر كانت مؤشراً كبيراً على ما يضمره الأخير تجاه قطاع غزة ويكشف عن حجم السياسات الثأرية في حسابات "عباس" التي لا تليق برئيس سلطة وتتعارض مع الموقف الوطني والأخلاقي.

المسؤولية الوطنية والأخلاقية كانت تقتضي تشجيع مبادرة فتح المعبر لإنجاحها وإستمرارها، وقبل ذلك كانت تستدعي هجوماً أوسع نحو المصالحة الوطنية الحقيقية الشاملة لفرضها، كما تستدعي زيادة حصة قطاع غزة من الموازنة العامة للسلطة والقيام بإنشاء عشرات المستشفيات والمدارس والمرافق العامة حتى وإن كان عدد من المانحين لم يف بإلتزاماته المالية، وتتطلب وقف كافة الأجراءات المالية العنصرية بحق كافة الموظفين من أبناء قطاع غزة وتعويض القطاع عن حصته من الوظيفة العمومية التي حرم منها على مدار سنوات الإنقسام وتعويض أسر الشهداء والجرحى بدل إدانة الوقفة الشجاعة من النائب "دحلان" وتحويلها إلى إتهام صرّح به أكثر من مسؤول "عباسي" إندمج حتى النخاع في النظام السياسي العنصري الذي أنشاه الرئيس عباس.

الرئيس عباس الهارب من إستحقاق إعادة إعمار قطاع غزة مكتفياً بتحميل حماس مسؤولية إعاقته، ومن إستحقاق المصالحة التي تؤسس لإنتخابات حرة ونزيهة، ومن مسؤوليته الكاملة تجاه كل الفلسطينيين في مخيمات سوريا ولبنان وغيرهما من مناطق اللجوء والنكبات، لا يمكنه الهروب للأبد من مواجهة الشعب تحت يافطة الإعتراف "بالدولة" أو "خطة إنهاء الإحتلال" ولا حتّى مطاردة إسرائيل أمام "الجنائية الدولية"، كما لا يمكنه الفرار من المساءلة الوطنية عن تلكؤه في التوقيع على "ميثاق روما"، وترك هذه القضية المهمة رهن مشروع سياسي مشبوه لا يمثل الإجماع ولا الإرادة الوطنية.

إن محاولات تحويل قطاع غزة إلى بؤرة إرهاب وتطرف بفعل السياسات الإقتصادية التي ينفذها الرئيس عباس، إلى جانب ما قامت به إسرائيل، هو أمر بالغ الخطورة لن يقبل به أيّ وطني فلسطيني أينما تواجد، ويتسدعي مواجهته بدون خجل من كل القوى السياسية التي لم ولن تسلم من سلوكه الشّاذ، فقد جرّبته الفصائل كمّا جرّبه أبناء حركة فتح وتأكدوا جميعاّ من حالة الإفلاس السياسي التي يعيشها والتي باتت خطراّ حقيقياّ على القضية الوطنية بعد أن أستنفذت كافة مبررات الصمت.

المؤامرة على القضية الوطنية لم تجد لها حاضنة فلسطينية ولا عربية سابقاً ولن تجدها لاحقاً مهما إشتد نهج "صناعة الأزمات الإنسانية" فالرهان على هذا الأمر رهان خاسر مع شعب خاض تجربة كفاحية طويلة وتعرض لصنوف مختلفة من العقاب الجماعي والحصار والتشرّد والجوع والتقتيل - ستتهاوى المؤامرة تحت أقدام أم فقدت أبنائها شهداء على درب التحرير، وستفضها سواعد شباب لم يتعرضوا لإبتزاز الرواتب وإغراءات السلطة والمال، ولا ترهيب الأمن ومحاكمات "إطالة اللسان على مقامات عاليا"، شباب أدركوا مستوى هذه المقامات وعرفوا أنه لا مقام يعلوا فوق مقام الوطن والقضية.