بعد ما يقارب من الأربع سنوات من انطلاق الحرّاكات العربية الشعبية التي انطلقت من تونس وأسقطت أول نظام عربي رسمي بهبة شعبية غير مسبوقة، توقع كل المحللين والسياسيِّين لها أن تحقق تغيير جوهري وأساسي في الهيكل البنائي للأنظمة، وتمنح الواقع العربي المأزوم منذ عقود دافع للأمام ليلحق بركب التطور المستديم والعالم المحيط به، خاصة وأن المنطقة العربية أو الشرق أوسطية غنية بالموارد البشرية، والطبيعية والاقتصادية إضافة للموقع الإستراتيجي الذي يعتبر محل صراع وتنافس من قوى الإستعمار العالمي في كلِّ الحقب التاريخيَّة، وبدأت من هنا حتمية المناصرة والتأييد من القوى الشعبية، والتقدمية التي ناضلت منذ عقود بعيدة لخلق حالة تثوير في مجتمعات تقليدية تقوم على قيم ومبادئ محددة ومعينة، ضمن منظومة قيمية متوارثة منذ جذور التاريخ القديم لهذه الأمة، وهذه المنطقة.
تناقلت وتواترت أحداث الحرّاك في تونس لتنتقل بالتواتر العشوائي العفوي إلى الدولة الأكبر في المنطقة ألَّا وهي مصر التي أصبح ميدان التحرير رمزية التغيير والثورة في المنطقة، وبدأ يشهد رحلات من كافة دول العالم، ومناصري الحرية وغيرهم لقراءة ودراسة هذا الحرّاك الشبابي الذي قدم أنموذج ثوري حي بدون رأس قيادي، أو بناء وملامح قيادية تُسير هذا الحدث وتنظمه، بل شهد تسارع القوى المختلفة أيديولوجيًا وعقائديًا للاستيلاء على المنجز المتمثل بسقوط أو استقالة نظام الرئيس محمد حسني مبارك، وتبدأ حلقات الفكفكة تتواتر، وتنتقل من بلد لآخر مرورًا باليمن، ثم ليبيا، ثم البحرين، ثم سوريا وهو ما أرق المطابخ السياسية العربية الرسمية، وخاصة الخليجية وعلى وجه التحديد السعودية التي حركت قواتها وقوات درع الصحراء الخليجية للبحرين تحت شعار محاربة المد الشيعي الإيراني، بما أن شيعة البحرين من خرجوا مستمدين من الحرّاكات العربية قوة دفع للتعبير عن موقفهم، والمطالبة بما اسموه حقوقهم، كما بدأ المطبخ السياسي الإقليمي التحرك بموازاة التحرك الشعبي العربي، وبدأ هناك بلورة تكتلات اقليمية تتحرك بدوافع مختلفة ومتنوعة كلًا حسب أهدافه، ولكن يجمعها جميعًا الهدف الأساسي التحرك مع أو ضد ما يحدث، فتحركت تركيا وقطر نحو سوريا داعمة للتحرك ومعهم السعودية والإمارات ومنظومة النفط الخليجي، وكذلك نحو ليبيا تتبنى اللغة والديباجة الثورية، وهو ما اتفقت فيه مع إيران كذلك في الموقف من مصر، وكذلك نحو اليمن، ولكنها اختلفت مع إيران في الموقف من سوريا، حيث وقفت إيران موقف الطرف في الحالة السورية، بل معتبرة أن ما يحدث في سوريا هو شأن إيراني وذلك للعديد من الإعتبارات السياسية والمذهبية، وإن كانت السياسية غالبة بما أن غيران تعتبر سوريا أحد أهم مفاصل المواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية و" إسرائيل".
وليس بمعزل عن الأحداث كان الحرّاك الأمريكي- الأوروبي الذي رأى في هذه الحرّاكات فرصة تاريخية لفكفة العديد من الأنظمة التي لم يعد لها دور في المنطقة، بما إنها أصبحت مستهلكة، ولم يعد لها أدوار مستقبلية، كما ارتأت أنها فرصة سائحة للانقضاض على مصادر النفط من ناحية، والبؤرة الإستراتيجية في عملية الصراع الدائر في المنطقة، وخاصة مع سورية حيث السيطرة عليها يتم ضرب عدة أهداف معًا ، أولًا محاصرة إيران جيوسياسيًا عبر محاور العراق- تركيا- سوريا، ثانيًا هدم مقومات الدولة القوية بعد العراق في المنطقة والتي تعتبر نظريًا تواجه"إسرائيل" من ناحية، وتدعم قوى المقاومة العربية من جهة أخرى ممثلة بحزب الله اللبناني، وحركتي حماس والجهاد الإسلامي التي تعتبران الأذرع المسلحة في لجم "إسرائيل"، وخلق توازن مع الولايات المتحدة التي تسيطر على الأنظمة الرسمية وتحركها وفق سياساتها العامة.
أمام هذه الحقائق كان هناك حقيقة أخرى، وهي غياب القطبين مصر والسعودية حيث تعرضت مصر لفكفكة منظومتها ونظامها الرسمي الذي كان يعتمد على السياسات الأمنية- الاستخباراتية في نسخ علاقاته، وتحالفاته، وتكتيكاته ضمن منظومة علاقاته الرسمية والدولية، وتغيب ممنهج للسياسات العامة... هذا أدى إلى ظهور قوى أخرى وإن كانت مسندة دوليًا ضمن حدود معينة والتكتيك الاستراتيجي الدولي المسيطر عليه أمريكيًا، في خلق حالة التفكك التي تم انتهاجها عربيًا على قاعدة الحرّاكات والثورات الشبابية، ومن ثم التركيب الذي استند على جماعة الإخوان المسلمين في بناه هيكله الأساسي، وهو تركيب لم يأخذ التوجهات الإستراتيجية للقوى الاسنادية، بل أعتبر تكتيك أو توجيه مؤقت يتم من خلال إحداث حلحلة وخلخلة للكيان السري الداخلي لهذه الجماعة، ومن ثم إضعافها، وتقزيمها، وتعريتها جماهيريًا، وتم ذلك ضمن تحالفات معينة في محور قطر- تركيا- الجماعة، الذي انعكس في مجملة على علاقات جزء من جماعة الإخوان مع الحليفين الاكبر- إيران- سوريا، وهنا خسرت إيران إحدى القوى الأساسية التي كانت تعول عليها في محور الممانعة وهي حركة المقاومة الإسلامية- حماس التي تحولت من صديق وحليف إلى عدو مع إيران وسوريا، وإلتجأ للحليف والراعي الجديد قطر، التي أيضًا تم تنصيب محور مضاد لتحالفاتها وهو دولة الإمارات العربية التي بدأت بدور مؤثر في معاداة جماعة الإخوان المسلمين.
ضمن هذه الدائرة المعقدة من حالة الفكفكة والتركيب تم إفراز أو إعادة انتاج قوة أخرى أكثر تطرف في المربع الأكثر إستراتيجية(العراق- سوريا- ليبيا) وهو القاعدة والوافد الجديد(داعش) الذي أصبح قوة كبيرة عسكريًا في المنطقة، ودخل ضمن صراعات جديدة سواء مع الأنظمة القائمة من جهة، وكذلك مع إيران- سوريا- ليبيا من جهة أخرى، ومع قوى الوسط الممثلة بأذرع الإخوان من المسلمين من جهة ثالثة، وهي معادلة تركيبية اصطدمت مع الولايات المتحدة الامريكية والغرب بعد ما بدأت هذه القوة تحاول فرض سيطرتها وتجاوز الحدود المرسومة مسبقًا لها، وخاصة في العراق حيث أنها بدأت تتعدى حدود الدولة السنية المستقبلية وتتجاوز نحو الأكراد، مما يهدد الأمن القومي التركي من جهة، وسياسات الولايات المتحدة الأمريكية والغرب من جهة أخرى، وعليه بدأ مرحلة فكفكة هذه القوة الجديدة، لتضاف للقوى التي تم تفكيكها سابقًا في المنطقة.
هنا فإن هذه العملية المستمرة لم تتضح بعد معالمها الرئيسية، والإستراتيجية حيث تبدو للعيان وكأن هناك تجارب تجري في المختبر الشرق الأوسطي الذي أصبحت دولة كفئران التجارب، رغم أن القرارات الأكثر وضوحًا لجملة السياسات القائمة حاليًا هي أن حالة الفكفكة هي الحالة الأكثر نجاعة سياسيًا في المنطقة، وتحقق أهدافها بشكل مناسب ويتناسب مع الإرادة الأمريكية- الغربية التي لا يمكن أن تحقق أي من أهدافها في حالة الاستقرار، بما أن الاستقرار يؤدي في بعض جوانبه لحالة من التفكير والعقلانية من بعض القوى والفئات المجتمعية.
عليه، فإن حالة الفكفكة والتركيب أفرزت العديد من الأسس والجوانب الهامة في المنطقة الشرق أوسطية لها يصب في صالح المخطط الأساسي والرئيسي المرسوم للمنطقة، وللقضايا المهمة فيها، وعلى رأسها القضية الفلسطينية والمصالح الصهيونية، والأهمية الإستراتيجية للمنطقة، النفط كمورد رئيسي وهام ومشتقاته، تصدير الأزمات السياسية والاقتصادية لقوى بعيدة كما حدث في فرنسا مؤخرًا.
د.سامي محمد الأخرس
20/1/2015
Samiakras@ gmail.com