ترويت قليلًا قبل الكتابة عن آلية حزب الله اللبناني في الرد على الغاره الصهيونية التي قتلت بعض قادته العسكريِّين في القنيطرة السورية قبل ايام، ليس من باب عدم القدرة على التحليل الموضوعي والمتزن للحدث، ولكن لإتخاذ الوقت في قراءة هادئة للحالة، بعيدًا عن التشنجات العاطفية، فالحدث، والحالة، والتوقيت، يوضح أن الكيان الصهيوني اختار توقيت غاية في الخطورة في توجيه ضربته العدوانية، مستهدفًا لخبطة أوراق المنطقة عامة، وبعثرتها، ولبنان وسوريا خاصة، بما أن اعتداءه جاء بعد أقل من يومين على خطاب الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله الذي استعرض خلاله مقدرات وقدرات الحزب العسكرية، وما يمتلكه من وسائل وأدوات وأسلحة ردع للكيان وللأعداء في المنطقة؟، وهي رساله موجهة لأطرافٍ متعددة، فكانت الهجمة الصهيونية كسر لقاعدة الاستعراض، ورساله أخرى من الكيان يستهدف منها جر حزب الله لردة فعل غير محسوبة، كما الحال عليه في سياسته مع الفصائل الفلسطينية التي تسارع لرجم الكيان بزخات من الصواريخ، وهي سياسة عمدية يجر من خلالها الكيان الفصائل الفلسطينية لردة فعل تخرج في المحصلة النهائية منها بتنفيس حالة الغضب والتذمر الشعبي الفلسطيني، وتمنح الكيان الذرائع التي يريد والمبررات للتحول من قوة عدوانية إلى قوة معتدى عليه أمام الرأي العام العالمي، وتوجيه ضرباته القاتلة للشعب الفلسطيني، وبالمآل النهائي لا يجني الشعب الفلسطيني أي نتائج سواء عسكرية أو سياسية بل مزيدًا من الخسائر على الصعيدين، إضافة لتكالب القوى العدوانية في المنطقة ، وإزدياد التوغل في معانيات الشعب الفلسطيني كما حدث في حرب حزيران عام 2014 الأخيرة على غزة، حيث كانت محصلتها الإجمالية مزيدًا من الخنق والحصار للشعب الفلسطيني، ومزيدًا من تكبيل وتحجيم قدرات المقاومة الفلسطينية، وإحراجها شعبيًا وإقليميًا ودوليًا، وهو نفس السلوك الذي حاول الكيان ممارسته مع حزب الله اللبناني الذي استطاع الحفاظ على توازن الساحة اللبنانية، وعدم الإنجرار لإستفزازت بعض أبواق الفتنة في لبنان، والعبور بالحالة اللبنانية إلى محيط وبر الأمان، والحفاظ على ساحة لبنانية متوازنه متزنة، تلفظ أنفاس الفتنة ومحاولات مروجيها في القفز على استقرار لبنان، والساحة اللبنانية الملتهبة، والتي كانت أقرب للإنفجار، وأيضًا نجاح الحزب في خلق حالة يأس وإحباط لدى القوى الفاعلى في سوريا، ونجاحه في وقف محاولات كسر سوريا وعرقنتها، وهزيمتها، حيث استطاع الحزب مع إيران والنظام السوريمن لجم هذا المخطط، وتحويل سوريا لحلبة تنافس وصراع اقليمي ودولي، وإلتفاف على قوى المقاومة العربية، وإدراك الكيان والمتعاونين معه في المنطقة أن سوريا أقرب للإنتصار من أي وقت مضى.
صمت وإتزان حزب الله حتى راهن اللحظة، هو الرهان الذي عَولت عليه منذ اللحظة الأولى للعدوان الصهيوني من خلال الثقة بقدرة القوى الثلاثة حزب الله، سوريا، إيران على قراءة رسالة الكيان الصهيوني، واستدراك مراميه جيدًا، وأن الرد لن يكون عشوائيًا غير مدروس ومنظم، أو غير هادف، وإنما سيكون رد متزن، ممنهج، استراتيجي، يعتمد على التكتيك السياسي، وهو ما لخبط الأوراق الصهيونية التي تحولت مؤسساتها الأمنية والعسكرية في حالة تأهب وتمحيص طارئة ودائمة، للبحث والتوقع والتنبؤ والتساؤل أين سيكون الرد؟ وكيف سيكون؟ والكيفية التي سيتم بها الرد؟ والمستوى الذي سيتم الرد عليه؟ وهنا لابد وأن الكيان استعاد للتو التكتيك السياسي، والعسكري الذي اتبعته الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وأمينها العام أحمد سعدات، وكتائب أبو علي مصطفى في الرد على عملية اغتيال أمينها العام أبو علي مصطفى، حيث هدأت وتروت، وخططت بسرية وحرفية بعيدًا عن ردات الفعل العشوائية التنفيسية، والعفوية وفوتت على الكيان تحقيق أهدافه ومراميه، وباغتت العدو برد قاسٍ ومزلزل، ودقيق، وموجع دون أن تمنح الكيان الصهيوني أي فرصة لاستدراجها لردات الفعل، وتحقيق ما يصبو إليه، بل قدمت للعالم أجمع مقنع، ومجاز، ومبرر، وقانون جديد (الرأس بالرأس)، واجبرت العدو وحلفاؤه في المنطقة على تجرح حسرة ومرارة الرد بصمت وهزيمة، بل أجبرت كذلك الرأي العام العالمي على عملية اعتقال الأمين العام أحمد سعدات من سجن أريحا، ووضعت الكيان في موقف محرج اقليميًا ودوليًا، وبذلك تكون الجبهة الشعبية قد جنبت شعبنا الفلسطيني أولًا همجية الكيان، وعدوانيته، ثم سحبت المبررات منه ليقدم نفسه كقوة معتدى عليها، وثأرت لأمينها العام برد قاسٍ وموجع جعل الكيان يفكر عشرات المرات قبل الإقدام على عملية اغتيال أي قائد من الجبهة الشعبية، أي حققت الجبهة كل أهدافها برد استراتيجي عميق ودقيق، وموجع وفريد، وحققت نصر فاعل وحقيقي على الكيان ومؤسستيه العسكرية والأمنية، بل والسياسية التي وقفت عاجزة عن خلق مبررات للرأي العام العالمي.
بناءً على ذلك، ووفق هذه المنهجية والآلية فإن حزب الله اللبناني أدرك وقرأ أهداف الكيان من وراء عملية الاغتيال ضد القيادة العسكرية في القنيطرة، واتضحت حالة اللخبطة وتبعثر أوراق الكيان من خلال تصريحات الإعلام الصهيوني التي لَم تَعد تمتلك القدرة على قراءة صمت حزب الله على هذه العملية، وكذلك تحديد توجهات الحزب في الرد، والتي لن تكون بأي حال من الأحوال عملية عشوائية أو ردود عشوائية غير مخططة ومنظمة واستراتيجية، وموجعة، لأنه يمتلك الأدوات والوسائل الفعليه، ولا يحتاج لتنفيس الجماهير اللبنانية والعربية، التي أصبحت تثق بقدرات ووعود حزب الله وأمينه العام نتيجة التجارب السابقة، ومصداقية هذا الحزب وقدرته على إدراة المعركة التي عهدتها شعوبنا العربية فيه ومنه. كما لن يستند ويرتكز حزب الله وأمينه العام لقانون ومبدأ الأنظمة العربية الرسمية " الرد في الزمان والمكان المناسبين" وتغييب العملية من ذاكرة الشعوب، والقفز عليها أو تفويتها للكيان الصهيوني، لأن حزب الله يدرك طبيعة العدو من جهة، وكذلك طبيعة الحزب وعقائده القتالية لا تبيح له التغاضي أو التفويت، فهو يدرك أنه حزب لديه مبادئ وعقائد معينة، وله وزنه السياسي والعسكري في المنطقة، ولا يمكن له المغامرة بهذا الوزن، وكسر الثقة التي رسمها بين الشعوب العربية، أو السماح للكيان باستباحة دماء قادته ومقاتليه، واستضعافه، لأن هذه العملية وضعت حزب الله ومقدراته وقوته على المحك، حيث حاول البعض أن يصور حزب الله منهك القوى، ولم يعد يمثل قوة فاعلة في المنطقة بعد تدخله العسكري في سوريا، ومحاولة المتربصين تقزيم القدرة السياسية والعسكرية والأمنية لحزب الله، أي أن حزب الله اليوم أمام خيارات متعددة الحكمة والتوازن، والرد بقدر الحدث مع تجنب تحقيق أو منح الكيان مبررات الإغالة بالدم اللبناني، وتقديم حزب الله كقوة عدوانية معتدية إرهابية، فالرد يتبلور من خلال تحقيق النتائج السياسية والعسكرية والأمنية، وتحقيق نصر فاعل ومؤثر على الكيان وأجهزته، وليس مجرد نصر نظري متخبط عشوائي غير معلوم الملامح والأهداف.
ختامًا يتبقى سؤال حاضر ومنطقي أي استراتيجية ردود حققت نتائجها وأهدافها على الكيان الصهيوني؟
د. سامي محمد الأخرس
[email protected]
24 يناير 2015