الفتى والعجوز

بقلم: أسامه الفرا

تكاد تقتصر أدوات المقاومة لدينا خلال سنوات الانتفاضة الأولى على الحجر وتسيير المظاهرات ورفع العلم الفلسطيني وإشعال إطارات السيارات وتحويل جدران المنازل إلى جريدة تعبوية، رافق تلك السنوات صورة من التكاتف والتعاضد بين فئات المجتمع الفلسطيني قلما نجد مثيلاً لها، بين يوم وآخر كان العلم الفلسطيني يرفرف على سارية "السنترال" في مركز مدينة خان يونس التي ترتفع لأكثر من عشرة أمتار، قبل أن يستنفر الإحتلال قواته لإجبار أحد المواطنين على إنزاله تحت تهديد السلاح رغم ما يكتنف ذلك من خطورة، يختفي العلم الفلسطيني لأيام قليلة قبل أن يعاود تواجده من جديد في ذات المكان.
بقدر ما شكل رفع العلم الفلسطيني المتكرر تحدياً لقوات الاحتلال بقدر ما أثار دهشة المواطنين حول الجرأة التي يتحلى بها من يقوم بفعل ذلك، وبقدر ما كنا نرى في رفعه على قمة السارية عملاً نضالياً كنا نرى أحياناً في انزاله عملاً بطولياً، كما فعل الفتى الذي أجبرته قوات الاحتلال على إنزالة حين أخذ يلوح به للمواطنين الذين يتابعون المشهد وإكتفى بأن يمسك باليد الأخرى بالسارية وهو ينزل من أعلاها، وهو ما أثار غضب جنود الاحتلال فإنهالوا عليه ضرباً فور أن وطأت قدماه الأرض، المهم أن لغز رفع العلم على سارية الإتصالات استمر طويلاً قبل أن تتكشف حقيقته، حين طال غياب العلم عن السارية على غير المعتاد، وعرفوا لاحقاً أن الفتى "خليل الأسطل" الذي تكفل برفعه لعشرات المرات استشهد بعيداً عن ساريته.
على مقربة من ذات المكان كان يقطن الحاج "أبو جواد البيك" في العقد السابع من عمره، إعتدت أن أتبادل معه اطراف الحديث في رحلة ذهابه وإيابه إلى المسجد الكبير، كان يعاني من مرض الربو، وتزداد معاناته مع رائحة إطار السيارات المشتعلة، ولسوء الطالع أن منزله يقع عند تقاطع شارعي جمال عبد الناصر وجلال، التقاطع في مركز المدينة جعل منه مكاناً محبباً لإشعال إطارات السيارات وبخاصة أيام الإضراب التي كانت الحركة تصاب فيها بشلل تام، وفي ظل ذلك إعتادت قوات الاحتلال أن تطرق بابه كونه الأقرب إلى المكان وترغمه على إخماد الاطارات المشتعلة، لم تراع يوماً ما كبر سنه ولا بخاخة الدواء التي لا تفارقه التي يكثر من استخدامها لمعالجة ضيق التنفس.
إعتاد الحاج "أبو جواد" أن يضع وعاءاً مليئاً بالمياه ومكنسة بجوار باب منزله لإستخدامهما وقتما أجبر على التعامل مع الإطارات المشتعلة، أحياناً يتكفل أحد الشباب بالقيام بذلك نيابة عنه، وإذا لم يسعفه شاب بفعل ذلك يتكفل تحت وطأة همجية الاحتلال القيام به، كلما قام بذلك تفاقم وضعه الصحي وزاد الربو من سطوته على جسده النحيل، لم يتذمر يوما من الاطارات المشتعلة وما تسببه له من انتكاسة في وضعه الصحي، لم يحاول مناقشة جدوى الاطارات المشتعلة كأحد أدوات النضال، كان يرى أن صبره هو الشكل الذي يشارك به الآخرين نضالهم.
توفي الحاج "ابو جواد" بعد أن تمكن منه مرض الربو سريعاً، لم تضعه الفصائل الفلسطينية في قوائم مناضليها، ولم تتسابق فيما بينها في تبنيه وخلق رواية تدعي فيها أنه من عناصرها أو مناصريها، لكن ذلك لا يقلل البتة من عشقه لفلسطين وأن تضحيته من أجلها ليست مرهونة بشهادة تقدير من أحد.