في ذكرى رحيل شيخ العلماء فضيلة الشيخ الجليل/ عبد الكريم الكحلوت

بقلم: نعمان فيصل

كلنا سنصل إلى النهاية، ولكن بمسافات مختلفة، وحياة الإنسان هي القصة الوحيدة التي يكتب القدر نهايتها، ففي ليلة لا ضوء للقمر فيها، سمح الله بأن ينتقل شيخنا العلَّامة/ عبد الكريم الكحلوت، إلى جواره، ولله در مَن قال:
لكل شيء إذا ما تمَّ نقصان فلا يغرّ بطيب العيش إنسان
وبقلب يعتصره الألم، تقبلت قضاء الله وقدره بحزن أليم، وإيمان عميق، وصبر بالغ، لقد ترك شيخنا – رحمه الله – فراغاً كبيراً لا في قلبي فقط، بل وفي قلوب جميع مَن عرفوه، من صغار وكبار، ومن أقرباء وأصدقاء. نحيي اليوم ذكرى هذا العالم العظيم بمناسبة مرور عام على رحيله إلى دنيا الحق، وتقف اللغة التي تباهت بخصوبتها عاجزة، عن إيفاء آثاره حقها في ميدان الوصف، أو تأدية ما يجيش في القلب من التقدير والحمد والثناء، لهذا العلامة الذي قلَّ ضريبه، وعزَّ نظيره، فقد كان ناطقاً عالماً، ومستمعاً واعياً، وداعياً عاملاً، يرجع إليه، ويحتج برأيه، حتى استرعى أنظار الجميع واستحق إعجابهم، فانهدم بموته ركن عظيم من أركان العلم، وانطفأت شعلة كان لها سنى البرق وأريج المسك، وخسرت به فلسطين رجلاً كبيراً بأخلاقه، كبيراً بعقله، كبيراً بأعماله. متمثلاً قول الشاعر محمود الورَّاق:
المـــــــرء بعد الموت أحدوثــــــة يفنـــــــى وتبقى منه آثــــــاره
فأحسن الحالات حال امرئ تطيب بعد الموت أخباره
وما أصعبَ موقف المُحِب يرثي حبيبه، فأوثق عرى الإيمان الحب في الله، بكل معانيه وأبعاده، والحب في الله هو أرقى درجات العاطفة الإنسانية، وكم يعز عليَّ حين أدير عيني أفتش في محرابك فلا أراكا، فقد كان الشيخ طوال سنوات طوال هو اللون الإضافي في حياتي، من وشائج وذكريات وقصص لا ينتهي سردها، ومَن عَرَف الشيخ معرفتي الطويلة به، وكان قريباً منه كما كنت، وارتاح إلى خطبه ودروسه كما ارتحت، عرف فيه الإنسان المثالي الباكي، لانحباس الغيث، وسغب اليتامى، وأنات الجرحى، ومن جالسه دهش لسعة اطلاعه ووفرة محفوظه، إلى جانب علمه الواسع وصدق فراسته كان يتحلى بأخلاق فاضلة كثيرة، ومزايا حميدة، فقد عاش حياته بطولها وعرضها في سبيل الكرامة والمبدأ والعقيدة، وأصبح مثلي الأعلى، فكنت أرقب أعماله وتصرفاته عن كثب، فأعجب بها، بل أبهر بها، لينطبق على حال محبتنا قول أبي تمام:
تذكرتُ نضرة ذاك الزمان لديه، وعمران ذاك الفناء
وإذ علمُ مجلسِهِ مــــــــــــــــوردٌ زلالٌ لتلكَ العقولِ الظماءِ
وكنت أراه بعين الجــــــلال وكان يراني بعين الإخاءِ
كان يعتبر نموذجاً لعلماء فلسطين، من حيث الجد في العمل، والاستقامة في الأخلاق، والتمسك بالمثل وتعاليم الدين العالية، والشفقة والشدة في موضعها، والسماحة مع مَن يستحقها، هكذا كان شيخنا – رحمه الله - فالعلماء الحقيقيون هم القائمون على الطب الروحاني، الذي هو تهذيب الأخلاق، وتقويم العادات، والمحافظة على سلامة الإنسان، لإقامة مجتمع قوي متماسك لا يتزعزع. فلا شيء يسيء إلى الدين، ويُنفّر الناس منه، مثل ادّعاء بعضهم أنهم حفظته والأوصياء عليه، وهم أسوأ الناس خلقاً، وفي هذا يقول البلغاء: (معلّم الأخلاق صار أسوأ الناس أخلاقاً). وفاقاً مع قول أبو العلاء المعري في الشيخ المتظاهرة بالصلاح:
لئن قــــــــــدرتَ فلا تفعــــل سوى حسن بين الأنام وجانبْ كلّ ما قَبحــا
فكم شيـــــوخ غــــــــدوا بيضاً مفــــــارقهم يسبّحُون وباتوا في الحنا سَبْحا
وليس عنـــــــــــــــــــــــدهم دينٌ ولا نســـــــــــكٌ فلا تغــــــــرك أَيْدٍ تحمِل السُّبحـــــا
لو تعقل الأرض ودّت أنّها صغرت منهم فلم يَرَ فيها ناظر شبحــــــا
وهكذا، فسيرة المرء تنبئ عن سريرته، والرجال صناديق مُغلفة لا تُعرف إلا بالتجارب. وإذا ما تصفحنا سجله الناصع وتبصرنا سيرة حياته، وجدنا أنفسنا أمام شخصية خاضت معركة الحياة بإيمان وعصامية وعلو همة، وكان الحظ الأكبر في نجاحه للصفات التي أضفاها الخالق على شيخنا، فكان خلقه الاعتداد بالنفس، وهو اعتداد فيه كثير من الإباء والشهامة، وقد احتفظ بهذه الصفة طيلة حياته ولازمته في أشد الأوقات حرجاً؛ فوفق إلى صيت حسن.
وحسبه تعريفاً أنه لو فتشت قلبه لوجدته قلباً رحيباً رحيماً، ظاهره كباطنه، نبذ العصبيات، واحتقر العنصريات، وكره الفرقة، وأحب التقارب والتعاطف والاتحاد وسعى لخير البلاد والعباد. فنفسه تزخر بحب الخير والعطاء في شتى الميادين. كان إنساناً بسيطاً، بل في حنين دائم إلى البساطة، فروعتنا بساطته، وهزنا حنانه، وعرفنا من تواضعه ما في الرجل من طبيعة الإنسان، فأوحى ذلك السلوك إلى خواطرنا خليطاً مبهماً من مشاعر الحب والتبجيل.
رحل الشيخ مخلفاً كثيراً من الحزن لدى رفاقه وأحبائه في كل مكان، وشعرنا أننا فقدنا كنزاً من العلم والمعرفة والأخلاق الحميدة، أحوج ما نكون إليه، كحاجة النبات في الأرض المقفرة لحبّات المطر، خاصة أننا نعيش وسط حالة سيئة غشيها ما غشيها، من الظلم والقهر والجمود، وكانت جرحاً دامياً في قلب كل أبناء الشعب الفلسطيني، هذا الشعب الذي تنكر له الزمان، وقست عليه الأيام، وعصفت به رياح الانقسام، وضاقت عليه الأرض بما رحُبت. هذا الشعب الذي ينام ولا يموت، أحوج ما يكون إلى مُثُله الراقية، والتزامه الواثق بأرضه وشعبه وتراثهما العربي، وحسبك دليلاً على ذلك، محاولاته لإصلاح منحى القيادة، وقسوة مجابهته، وحدة موقفه في رص الصفوف ورأب الصدع كالسراج الوهاج. فكان إنساناً كاملاً يستريح إليه الناس جميعاً، ويرغب في وده كل مَن عرفه. فقد أحس بآلام قومه، وشرب من الكأس التي شربوا، وكان مخلصاً لوطنه في جميع أدوار حياته، كالغيث الغادي، فأغاث الملهوف، ونصر المظلوم، ورد التائهين في الظلام إلى النور بتأثيره الفذ. فعرف الناس فيه هذه المثالية فتقربوا إليه وخطبوا وده، ورغب كل فريق أن يستميله إليه، ليعتز به مناصراً ومؤيداً، ولكنه ربأ بنفسه أن يسفه، وأن يرضى لقلبه أن يباع ويشترى، وأن يكون حزبياً، وهذا مبدأ لم يحد عنه، فالعظمة الحقيقية هي أن يكون المرء سيد نفسه. فكان موضع الثقة، ودائماً كان موضع الإجماع، وكأنه راية من الرايات التي التف جميع الفلسطينيون حولها، كالشمس المشرقة يضيء على صفحة هذه السماء الزرقاء، تلك هي شمس الحب، الحق نورها، والحب حرارتها. وكان يهزه قول الشاعر محمد إقبال هزاً عنيفاً:
كل شعب قام يبغي نهضة وأرى بنيانكـــــــــــــــــــــــــــــــم منقسمـــــاً
في قديم الدهر كنتم أمـــــــة لهف نفسي كيف صرتم أمماً
سيبقى الشيخ يعيش ويعشش فينا ما حيينا، فلا ريب أنه خالد في أفئدة أهله ومحبّيه، خالد بأعماله وآثاره العظيمة. كان أباً حنوناً بلا حدود، وكان إنساناً متسامياً، بكل ما في معنى الإنسانية من نبل وعمق، ولا يستطيع المرء مهما أطنب في الكلام عن الشيخ أن يحيط بالجانب الإنساني من شمائله، فهو إنسان يحب الناس حباً جماً، وكان دينه كدين الصوفي ابن عربي الذي يقول:
أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني
ولا أجد ما أختم به هذه الكلمات عن الحبيب الشيخ/ عبد الكريم الكحلوت خيراً من قول شوقي:
وأخذك من فم الزمان ثناء وتركك في مسامعها طنينا








قصيدة: (في ذكراك منّا السلام)
بمناسبة ذكرى رحيل الشيخ الجليل/ عبد الكريم الكحلوت


مِنّا إلى شَيْخِ الشُّيوخِ سلامُ
شَيْخُ الشيوخِ مَنارَةٌ علّامَةٌ
"عَبدُ الكريم" وثيقَةٌ مخطوطةٌ
كان الطّهارَةُ والوفاءُ لِعِلمِهِ
قالَ: العَدالَةُ مبدأَي وعقيدتي
حملَ الأمانَةَ صادِقاً ومُصَدِّقاً
كانت بَصيرَتُهُ وكانَ فؤادُه
نَهَلَ المعَارِفَ والعلومَ مبكِّراً
وسَلَكْتَ دَرْبَك َعالمِاً ومُعَلِمَاً
"عبدُ الكريم" ولا أقولُ مُداهِناً
سَيْظلُّ رَسْمُكَ في القُلوبِ وفي النُّهى
مَهْما نقولُ فقولُنا دون الذي
فإلى جناتِ الخُلْدِ يا قَمَراً خَبا
نَمْ في ثراكَ قريرُ عَيْنٍ هانِئاً
هو عالِمٌ ومُعَلِّمٌ وإمامُ
هو كوكَبٌ يَزهو بهِ الإسلامُ
والصّدقُ والإيمانُ فيهِ وسامُ
يَزهو بهِ وبِعلمهِ الأَحكامُ
لن أَنثني مهما طَغَا الحُكّامُ
لَم تُثْنِهِ الأَوهامُ والأَحلامُ
نوراً يَشِعُّ لِينَتهي الإظلامُ
من أزهَرٍ باهَتْ بِهِ الأيّامُ
فتعَطَّرتْ منْ نُورِكَ الأحلامُ
أنتَ الكَريمُ وطَبْعُكَ الإكْرامُ
يا عالمِاً جَادَتْ بهِ الأعوامُ
نادى بهِ العَالِمُ العَلَّامُ
سَيظلُّ رَسْمُكَ في القلوبِ يُقامُ
في جَنَّة الرّحمْنِ فهي مُقامُ