عملية حرق الطيار الأردني الشهيد معاذ الكساسبه على أيدي مجموعة من القتلة والمجرمين "داعش"،المتسترة والمتلفعة بالدين الإسلامي زوراً وبهاتاً،يكشف بشكل جلي بان هذه الجماعة،ما تريده اولاً وقبل شيء آخر،تشويه وإلصاق كل ما هو سيء وسلبي في الدين الإسلامي،لخلق رأي عام عربي وإسلامي ودولي معاد للدين الإسلامي،وإيجاد الحجج والذرائع للقوى المعادية لكي تستبيح الجغرافيا العربية،تنهب خيراتها وثرواتها وتفكك جغرافيتها،تحت ذريعة ويافطة محاربة الإرهاب،وكذلك ما قام به القتلة المجرمين وما إرتكبوه من جريمة نكراء،يعطي الحجج والذرائع لدولة الإحتلال "الإسرائيلي" بإستمرار ممارسة جرائمها بحق الشعب الفلسطيني والمقدسات الإسلامية والمسيحية وبالذات المسجد الأقصى.
"داعش" ليست بالكائن الخرافي او الأسطوري،او التي سقطت علينا من السماء،او تم إستولادها وتخصيبها في الخارج،بل هي ابنة هذه البيئة،وهي موجودة في سياقاتنا الاقتصادية،الاجتماعية،السياسية،الفكرية،التاريخية والأمنية،"داعش" وليدة فكر فقه البداوة،وليدة فكر السجون والكهوف،طورا بورا وغوانتنامو،وليدة لإحدى القراءات الإسلامية التي التي تكفر ولا تعترف بغيرها من المذاهب والمدارس الإسلامية والديانات الأخرى،"داعش" هي وليدة فشل الدولة العربية الحديثة في اقامة مجتمعات المواطنة الكاملة والعدالة الاجتماعية،"داعش" تكون حيث يكون الجوع والفقر والتخلف والجهل،وسيادة ثقافة الدروشة والشعوذه والأساطير والخرافات،وتنمو في مجتمعات القهر والفساد والإستبداد،وهي نتاج الديكتاتورية والقمع وغياب الديمقراطية والإقصاء واسنداد افق العمل السياسي والديمقراطي وعدم المشاركة في صنع القرارات وغيرها.
ولـ "داعش" أخوات وأمهات في تاريخ العرب والمسلمين،القديم منه والحديث، وهي تنهل من حقب ومراحل في التاريخ العربي والإسلامي، ساد فيها العنف والاغتيال وحروب "الإخوة الأعداء"،فأكثر الصحابة والمبشرين بالجنة قضوا في حروب الردة ومعارك "الفتنة الكبرى"، وثلاثة من أصل أربعة خلفاء راشدين،قضوا اغتيالاً ... وحرمة آل البيت ومكانتهم،لم تمنع من تقطيع رؤوسهم وسبي نسائهم وحروب الملوك والخلفاء في العهود اللاحقة، أزهقت أرواح عشرات الألوف من المسلمين وغيرهم.
"داعش" ابنة قراءة للإسلام، لنقل في انحرافها ما نشاء، ولكنها قراءة من قراءات تسود حيناً وتتراجع أحياناً ... لا ترى في تعاليمه سوى "حد السيف" وتقطيع الرؤوس والأطراف، والجلد والرجم ... وجميعها ممارسات، ما زال يُعمل بها أو بكثيرٍ منها، في القوانين السائدة في عدد من الدول العربية والإسلامية ... وما زلنا نقرأ في "إسلام" هذه الدول الرسمي، كل مظاهر الإلغاء والإقصاء والتكفير، لا للآخر في الدين والمعتقد فحسب، بل وللآخر في المذهب والفكر، من أبناء أهل السنة والجماعة.
"داعش" هناك من يحتضنها ويوفر لها كل مقومات البقاء والقوة،ويوفر لها ايضا الحواضن والدفيئات ويمدها بالمال والسلاح والرجال،ويجند لها مشايخ ورجال إفتاء ويفتح لها ابواب الاعلام بكل انواعه على مصرعيه لكي تبث وتنفث سمومها،ويقيم لها المؤسسات الدينية والتعليمية والإغاثية،ويخلق ويوجد لها بنية تحتية ومؤسساتية،ويستخدمها لخدمة اهدافه واغراضه ومصالحه،ولذلك لا احد يقول بأن "داعش" ليس وليدة مجتمعاتنا او غريبة على عاداتنا وتقاليدنا أو مستنبتة ومخصبة في مصانع غربية،بل هي مولودة وضاربة جذورها في بيئتنا،الغرب والإستعمار يلعب دوراً داعماً في تمددها وتوسعها والرفع من شأنها وتسمينها وتقويتها،لكي يستفيد منها في مرحلة معينة في صراعاته ومواجهاته الخادمه لمشاريعه واهدافه في المنطقة،ولكي يتخلص منها كقوى متطرفة وإرهابية وإنغلاقية،فهذا ما حدث مع ما يسمى بالجهاد العالمي،حيث استغل الأمريكان حركة طالبان وجماعة القاعدة في حربهما ضد الاتحاد السوفياتي سابقا في افغانسان،مشيخات النفط والخليج وبالذات السعودية مولت تسليحها ومدها بالعرب الافغان،والرئيس الأمريكي ريغان اصبغ عليها في تلك الفترة لقب مقاتلي الحرية،ومن بعد ذلك وفور انتهاء المهمة والدور تحولت الى جماعة إرهابية،واليوم نفس السيناريو يتكرر مع "داعش" حيث في الحرب الباردة العربية،هناك من يستغل ورقتها في حربه ضد المسلمين الشيعة (ايران وحزب الله والحوثيين في اليمن وشيعة البحرين..الخ)،وهناك من يستغل هذه الورقة كالاتراك ضد النظام السوري من اجل اسقاطه،وكذلك هم الأمريكان يلعبون في هذه الورقة من اجل تنشيط مصانع اسلحتهم وزيادة معدلات نموهم الاقتصادي وتدمير المجتمعات والدول العربية بنية ومؤسسات وجيوش خدمة لمشاريعهم وأهدافهم ومصالحهم في المنطقة...
في ظل ما يحدث ويحصل في الواقع العربي،حيث يتقدم الفكر الإنغلاقي والتكفيري والثقافة المشبعة بالتطرف والعنصرية،والدعوات المذهبية والطائفية والتحصن والتحلق حولها،وكذلك تغييب العقل والفكر والحجر عليهما لصالح فقه البداوة وفكر الكهوف والسجون والكتاتيب والمدارس المتشددة والمذاهب الإقصائية وغيرها،فلا غرابة من وجود الفكر "الداعشي"فمثل هذه الظواهر والحركات في ظل بنية ذهنية عربية قاصرة وفي ظل ديناميات سلوكية وثقافية ووعي عربي وفلسطيني مشوه،وغير محصن ومحمي،فإن ذلك حتماً سيشكل حاضنة وتربة خصبة لنمو ووجود مثل هذه الظواهر والحركات،ويستحيل علينا بفكر ووعي وسلوك مشوهة ان ندافع عن مشروعنا القومي العروبي،الذي يتعرض لحرب شاملة من الداخل من قبل قوى تغلب الأيديولوجي على الوطني،وتعلي مذهبيتها فوق وطنيتها وقوميتها،وكذلك قوى خارجية استعمارية مستفيدة من وجود مثل هذه الظواهر والحركات تسمنها وتحتضنها وتزودها بكل مظاهر القوة،لكي تخدم مشاريعها ومصالحها الإستعمارية،ولكي تفعل فعلها في تدمير المجتمعات العربية،وتعلم على تفتيتها وتشظيتها وتذريرها.
في مرحلة التراجع والإنهيار،وغياب دور رجال الفكر والنخب السياسية والإعلامية والأكاديمية وعجزها عن التصدي للفكر المذهبي والطائفي وما تبثه وتنشره تلك الحركات الإقصائية من أفكار هدامة وتدميرية ،فلا غرابة ان نجد من يدعون لبعث روح القوميات الآرامية والكنعانية والفنيقية وغيرها.
نحن في مرحلة الضعف والإنهيار وتشوه الوعي وفقدان البوصلة،وغياب المفكرين وعقم الأحزاب الثورية والتقدمية والقومية والعلمانية،وكفها عن انتاج فكر ومفكرين،فإنه ليس من الغرابة في ظهور من يرقص على إيقاعات الطائفية المرعبة: سني – شيعي – يزيدي – أشوري- كلداني – شافعي –مالكي – حنبلي- روم أرثوذكس – لاتين – موارنة – دروز – سريان – لوثري – أرمني...
إذن هي النتيجة الطبيعية والمنطقية للتكيف والتساوق الواعي أو غير الواعي مع البنى السياسية والجغرافية والسكانية والثقافية التي تفرضها قوى الهيمنة الاستعمارية على المجتمع وما تعنيه في النهاية من تشكل الحاضنة لمختلف الظواهر الشاذة المناقضة لمصلحة الأمة أو الشعب،والتي راح ضحيتها الشهيد الكساسبه وغيره عشرات ألألاف،إن لم يكن المئات ضحايا لمثل هذه الجماعات الشاذة والغربية الأطوار.