في البدء كانت السياسة، دلني عليه قلمه الذي يلامس الخطأ برصاص النقد، وصلني فترك بصمة تحمل اسم الكاتب: نواف أبو الهيجاء، والحقيقة تعترف بأني لم أعرفه شخصيا، ولا أذكر أني قابلته جسدا، رغم أني أتابع بشغف ما يكتب، بل أقتفي أثر قلمه الحاد، كالشوك والجميل كوردة، حتى أعثر عليه بين أعمدة صفحات الرأي في الصحف اليومية البيروتية. وقت الوداع تعرّفت على صاحب الاسم فقط، ومن يكون ؟ ومن أين أتى؟
وحينهاا رأيت وجه صاحب سيرة الضحية، ليأخذني إليه عبر كتاب حياته " فلسطيني جدا" ، هكذا في مراسم لموت ترتسم معالم التكوين، ويولد الاسم مع النص والصوت من الصورة، ولنكتشف إرثه الإبداعي الثمين من نتاج أدبي وروائي وقصصي ومسرحي، أيقونته المخبأة منذ زمن تقول بإن المبدع جدا واللاجئ جداً، والغريب جداً، والحالم جداً والإنسان جداً، والمقاوم جدا هو حقا الجدير الفعلي بمعنى فلسطين، ويستحق بالدليل الدامغ اسم " فلسطيني جدا ".
لحظتها فقط تحددت ملامح الوجه المألوف الذي رأيته للمرة الأولى، ابن الغربة المتكررة لم يبد لي غريبا طالما يشبه حكايات المخيم، وأدهشني لفرط ما يشبه الوطن، على وقع نظراته الموغله بالوجع والقلم الشاهق بكل تفاصيل الغربة، يطارد الحلم كظل غريب ويسابقه على طرق رملية حارقة ومتعرجة، في زمن التيه العربي الكبير وما بينهما من ذكريات باقية في المخيمات نودعه لنعرفه أكثر، قدرنا في الشتات أن تظل الكتابة صرختنا القسرية في وجه المنفى القهري . الحكاية لا تقتلع، و تأبى الغياب لكل جذر يتأصل في القلب مثل أشجار حنين، هكذا العاشق الذي ترك نبضه ذات نكبة في "عين حوض" مثل كل فلسطيني جدا، سيما أنه مدجج بالذكريات وبحس الانتماء للوطن، ويتمسك بالحق بلا هوادة، لاغياب فهو حضور لصاحب حلم بلا حدود، يهرم و لا يتعب، ومن غير المسموح أن يتوقف، فهناك في الأفق البعيد ما زال هناك غارساً الصبّار يصبو للقاء حصري يعبر جلجلة الدرب الطويل الممتد إلى حيفا.
*لمناسبة رحيل الكاتب الروائي المناضل / نواف ابو الهيجاء