مرة اخرى تسجل الانظمة العربية اخفاقا جديدا في ملف هام، والمتمثل في التعامل مع الجماعات الدينية، هذه الدول تركت الاسباب التي ادت الى ظهور هذه الجماعات وذهبت لمعالجة هذا الملف الشائك بجميع سبل القمع والبطش. أي تخطت عدة مراحل في العلاج وقفزت لمرحلة " الكَي". لا ندافع عن التشدد بشتى مظاهره، ولكن الدولة الناجحة تعمل على تطويق الازمات ومعالجة الاسباب الحقيقية واستيعاب جميع فئات المجتمع وتضع قانونا ونظاما للجميع بدون تمييز.
لقد فشلت الحلول العسكرية والامنية في التعامل مع الجماعات المتشددة، والنصيحة التي تقدم للقائمين على مهمة الحفاظ الأمن؛ وصناع القرار: ان يستعملوا مداخل سلمية للتصالح ( Peaceful Abroaches) والاستيعاب الايجابي (Containment Policy) مع الجماعات الاسلامية الاخرى، لان الحل "الأمني والعسكري" لا يجد نفعا، وقد تم تجريبه منذ الستينيات في اكثر من بلد ولم يؤت ثماره، بل كانت تداعياته كارثية بسبب العنف والعنف المضاد (دوائر رد الفعل المستمرة والخلايا النائمة). فلا يمكن لأي نظام يتخذ جزء كبير من شعبه كأعداء ان يتصف بالحكمة والعقلانية.. !!
ان تطبيق ما يعرف بــ Preventive Diplomacy ، اي " الدبلوماسية الوقاية" التي تعنى بمحاولة تطويق الازمات قبل وقوعها، ومعالجة الجذور الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية والنفسية.. (Social and Economic roots ). هو الحل الامثل، والذي نجح في اوروبا والولايات المتحدة مع المذاهب الدينية والتيارات الاصلاحية التي ظهرت وكانت توصف ب"المتشددة آنذاك"...
فالحصار يعتبر بيئة حاضنة لزيادة كراهية المحاصِرين من الغرب ومن عاونهم. التمييز بين ابناء الشعب الواحد والتوزيع الغير متكافئ بين افراده وفئاته، كل ذلك يخلق حالات من عدم الاستقرار الظلم الاجتماعي الذي من شأنه ان يعمل على ظهور الفلتان الامني والاجتماعي وحالات الثأر الذي يهدد أمن واستقرار النظام والبلد نفسه.
ان مشهد التعاطف الرسمي العريض والمبالغ فيه لمقتل الطيار الاردني معاذ الكساسبة على يد -تنظيم الدولة الاسلامية، داعش- الذي كان ضمن طاقم جنود التحالف الدولي الغربي الذي تقوده امريكا ومن بين مهامه التدخل عسكريا في شئون الدول العربية والاسلامية، والذي يقابله حالة صمت رسمي امام مقتل ثلاث فلسطينيين في نورث كارولينا- الولايات المتحدة- على يد متعصب امريكي، هذا المشهد المتناقض المتمثل في الموقف الرسمي للدول العربية بين تعاطف واسع لمقتل الطيار الاردني وصمت مطبق مهين تجاه الثلاث فلسطينيين الذين سقطوا على يد متطرف امريكي يثير حالات استياء شعبي ويخالف الارادة الجماهيرية، ويكشف ان الدول العربية تشارك في التحالف الغربي الذي له اجندة تختلف عن طموح واهداف الدول العربية، بل وتتناقض معها في كثير من الاهداف. لقد تجاهلت وسائل الاعلام الامريكية هذا الخبر تماما كما فعلت وسائل الاعلام العربية الرسمية.
وفي الحالة الفلسطينية، قد يكون من الخطأ الفادح ان يعتري الدول العربية مستويات فساد تتفاوت من دولة الى اخرى، ولكن من الخطيئة ان يحصل ذلك في فلسطين، (التي تقع تحت احتلال). ان الفساد والتوجهات الخاطئة وتهميش المجتمع الفلسطيني بجميع فئاته في الداخل وفي الشتات (المخيمات في لبنان وسوريا والاردن الخ) يعتبر مشاركة في الحصار ومحاولة مستمرة لتركيع المجتمع الفلسطيني وتخفيض منسوب مقاومته للاحتلال بسبب انشغاله في تلبية ادنى احتياجاته حسب (هرم ماسلو) وبحثه الدائم لتوفير الملبس والمأكل والمشرب.
ان مظاهر التفرقة بين موظف غزة وموظف رام الله، واطلاق مصطلح موظف شرعي وغير شرعي، يعتبر خطأ ترتكبه القيادة الفلسطينية، وتغول في حقوق الموظفين ومصادرة لمواطنيتهم واستحقاقهم الوطني، ويدخل في فساد توجه وسقوط اخلاقي لصناع القرار، حيث الجميع ابناء القضية الفلسطينية، والجميع شركاء في الدم والقرار. وان الاستمرار في ارتكاب مثل هذه الاخطاء يسبب ظهور تطرف وتشدد وحالات انتقام وظلم اجتماعي، يدفع ثمن هذه الخطيئة الشعب الفلسطيني الذي يستحق جميعه ان يعيش بكرامة. فمن يزرع الشوك لا يحصد به عنباً.