من الناحية النظرية فإن الجيوش العسكرية النظامية تشكل صمّام الأمان ، عليها تقع واجبات حماية الأوطان والدفاع عنها من المخاطرالخارجية والحفاظ على الهوية الوطنية للدول المستقلة وفق العقائد والأعراف العسكرية المعهودة وولاء القسم ، لاتدين بالولاء للطائفة أو المذهب أو العرق كما يُحظر عليها التدخل بالتجاذبات الحزبية وتقف على مسافة واحدة بين مختلف المكونات السياسية ، تلك هي القواعد والأصول التي تبنى عليها الجيوش الحديثة ، أما مايتعلق بجيوش العالم الثالث ومنها العربية فالأمر مختلف إذ تتركز السلطات الرئيسة بيد الحاكم الذي يكون القائد الأعلى للجيش وكافة الأجهزة الأمنية الأخرى الحريص على إنشاء جيوش نخبة خاصة رديفة مهمتها الأساسية حماية الأنظمة تسمى بالحرس الجمهوري أو القوات الخاصة أو أي مسميات أخرى لها تخصيصات مالية وتسليحية ورعاية مميزة تختلف عن باقي التشكيلات عادة مايتوّلى قيادتها المباشرة أحد أفراد العائلة من الدرجة الأولى والمقربين والمحسوبين، وبالتالي لاتنفصل الجيوش عن منظومة احتكار السلطة والثروة بكونها أداة من أدواتها القمعية كما كان على الدوام المُدبر الفعلي للإنقلابات العسكرية التي يليها إعلان حالة الطوارىء وبالتالي تعطيل القوانين وفرض الأحكام العرفية .
لكن الأمر الأكثر أهمية تجلّى في ضوء التحولات المأزومة التي تشهدها المنطقة العربية ولم تزل تداعياتها مستمرّة لغاية اللحظة الراهنة سواءً على الصعيد الداخلي ماسُمّي بثورات الربيع العربي حتى أضحت من المفردات ثقيلة الوقع على مسامع الإنسان العربي نتيجة تشويهها المتعمّد على أنها مؤامرة خارجية وليست فعلاً تراكمياً من العذابات طال أمدها سرعان ماتنفجر بوجه الطغاة وأيضاً تسلل أدوات وعوامل طفيلية نمت على هوامش الأزمات والمصالح الذاتية غير مؤهلة لقيادة الحركات الشعبية نحو بر الأمان ، داخلية كانت أم خارجية جعلتها تنحرف عن مضامين أهداف الشعوب التواقة بشغفٍ للحرية والكرامة الإنسانية شأنها شأن الحاجة للقمة العيش ، أو القضايا المركزية الكبرى للأمة على رأسها القضية الفلسطينية المتجسّدة بالصراع العربي الإسرائيلي حيث اتخذ منها النظام الرسمي العربي شمّاعة يُعلّق عليها كل العيوب والمثالب التي شابت مسيرته منذ البداية تحت شعار كل شيءٍ من أجل المعركة المصيرية ، فضلاً عن اخفاق تجارب العمل العربي المشترك ذات الأبعاد السياسية والإقتصادية والأمنية لمواجهة تحديات العصر اسوة بباقي التكتلات الإقليمية والدولية في أوروبا وأمريكا ودول الأسيان .
لذلك تبرز أسئلة جوهرية تستحضر واقع الأسس والمرتكزات التي قامت عليها الدولة العربية الحديثة بعد انتهاء الحقبة الإستعمارية مباشرة إن كانت قد نالت اسقلالها فعلاً أم لازالت تدور في فلك الماضي أهمها مؤسسة الجيش التي يفترض أن يكون ولاءها المطلق للأوطان وليست أداة بطش بأيدي النـُظم الديكتاتورية ، ظاهرة تستحق الدراسة العميقة من قبل مراكز الدراسات وذوي الشأن الإستراتيجي عن أسباب هشاشة بُنية هذه الجيوش ومكامن الخلل المزمن ولايجري الحديث هنا عن الأعداد الرقمية والقدرة التسليحية والتصنيفات الإستعراضية انما عن السبب الذي لم يمكـّنها من تحقيق الإنتصار خلال الحروب الدفاعية العادلة لاسترجاع حقوقها المسلوبة التي خاضتها منذ النكبة الفلسطينية مروراً بالهزيمة الحزيرانية وكذا حرب تشرين من حيث النتائج السياسية وصولاً إلى الإنهيارات المُفجعة أمام حفنة من المتطرفين المُستجلبين المأجورين بما يخدم المخططات التقسيمية للمنطقة وتدمير بناها التحتية والسيطرة على مقدراتها ، بالرغم من تخصيص الجزء الأكبر من عوائد الثروة الوطنية على شراء صفقات التسليح الضخمة تقدر بمليارات الدولارات إضافة للتجهيزات اللوجستية الأخرى التي تـُنقذ في غالبيتها اقصاديات الدول الكبرى المُصدّرة للسلاح من الإنهيار إذ يتم تكديسها في المشاجب حتى يأكلها الصدأ ولم تُستخدم إلا في مواجهة الشعوب المقهورة وما تمليه القوى الكبرى خدمة لمصالحها .
لقد مرّت المجتمعات عبر مسارها التاريخي بظروف مشابهة وليست متطابقة تخللتها ثورات وحروب طاحنة وكذا حروب داخلية وصراعات طبقية تناحرية ولكنها استطاعت في نهاية المطاف الإنتقال التدريجي نحو التطور الديمقراطي وفق خصوصيات وطنية متوازية إشتراكية ورأسمالية بينها الدول النامية أو العالم الثالث الذي كان يبحث عن طريقه في إطارعملية التحرر الوطني وهي أكثر تعقيداً بسبب مخلفات الإستعمار المباشر وعدم نضوج القوى المحركة من جهة وتشابك الأنماط الإقتصادية المُركـّبة البدائية مع الرأسمالية وذات التوجه الإشتراكي مجتمعة في بيئة واحده من جهة ٍأخرى التي تكون عادة انعكاساً لطبيعة الوعي الإجتماعي ، فلماذا تتهاوى الضرورات القومية الموضوعية المهيأة أكثر من غيرها مقابل الإنكفاء الذاتي والتقوقع داخل الحدود المُصطنعة ثم الإذعان لمشاريع التفكك باتجاه خلق كيانات مذهبية وطائفية متناحرة تتطابق مع المخططات الصهيونية القديمة التي تقضي قطع الطريق على الوحدة العربية والعمل العربي المشترك حيث شهد نهوضاً في مرحلة المدّ القومي خمسينات القرن الماضي ثم أخذ منحىً تراجعياً ماجعل الأنظمة الشمولية عقبة كأداء في وجه عملية التطورالطبيعي نحو بناء مجتمعات مدنية ديمقراطية خالية من الإستبداد يسودها العدالة والتنمية وحكم القانون تبدو محظ أوهام ؟ .
إن نهاية المشهد التدميري الذي تغرق فيه المنطقة العربية لايبدوا قريب المنال بعد تخلي النظام الرسمي العربي عن إيجاد الحلول المناسبة لقضاياه الداخلية حيث ترك فراغاً أدى إلى فسح المجال أمام القوى الإقليمية والدولية كي تقرر مصائرها وفقاً لمصالحها هي وليس مصالح شعوب المنطقة من خلال تجاوز أنظمة الحكم القائمة والتعامل المباشر مع بعض الجهات الأمنية والتشكيلات العسكرية والمكوّنات العشائرية الأمر الذي ينبىء بمستقبل غامض قد يطول سنوات وسط عملية تدمير ممنهجة ستأكل الأخضر واليابس تعيد الدول إلى العصور البدائية ، بينما يكون المستفيد الأول في المنطقة كيان الإحتلال العنصري المدعوم من قبل الإدارة الأمريكية بلا حدود الذي يستبيح الأرض والمقدسات ويضرب بعرض الحائط كل القوانين والمواثيق الدولية وصاحب المشاريع التقسيمية القديمة الجديدة القائمة على إثارة النعرات الطائفية والعرقية والمذهبية وخلق بؤر التوتر في المنطقة والعالم .
ربما يكون هناك حيّز ضيق من الوقت أمام النظام الرسمي العربي بمناسبة انعقاد مؤتمر القمة الشهر القادم لإنقاذ مايمكن انقاذه والخروج من دائرة المتفرّج أو المُساهم في تفاقم الأزمة إلى ميدان الفعل الإيجابي حتى لو جاء متأخراً ووقف حالة الإنهيار أولوية قصوى قبل أن تمتّد النيران لتطال الجميع دون استثناء ومن يعتقد أنه في منأى عن الخطرالداهم يكون كمن يدفن رأسه في الرمال ، فالمنطقة مقبلة على إعادة تشكيلها والصراع الدائر بين القوى الدولية الجاري يدورعلى وراثة التركة بعد أن يبلغ الجسد المريض مداه والأمر الأكيد أن الورثة الجدد لن يكونوا من الناطقين بالعربية في ظل جيوش لاتنتمي لأوطانها.
بقلم/ محمد السودي