تكتسي المحال التجارية باللون الأحمر في استقبالها لعيد الحب "الفالنتين"، ليس هذا في الدول الغربية التي ابتدعت هذا اليوم بل إنتقلت عدواها إلينا، حتى وإن ظل التعاطي معه في مجتمعاتنا بين الترحيب والتنديد، والتنديد لا يأتي من باب مقاومتنا لقيمة الحب التي تتسع لكل مكونات الحياة بدءاً بالكلمة الطيبة مروراً بالأهل وإنتهاءاً بالوطن، بل بفعل خاصية النسخ واللصق التي ننقل بها عن الغرب أدبياته، دون أن نضفي عليها شيئاً من خصوصيتنا وقيمنا وتراثنا.
الأيام القليلة التي تسبق عيد الحب في الدول الغربية يزدهر فيها بيع الورود، والوردة الحمراء دون غيرها من الورود، وترتفع اسعارها إلى أرقام لا تقترب منها في باقي أيام السنة، وواضح أن اللون الأحمر برمزيته يطيح أرضاً بباقي الألوان، حتى وإن تمتع غيره بقيم تلهث الشعوب من أجل تحقيقها، الوردة الحمراء الصغيرة يضعها الكنديون في مكان ظاهر على ملابسهم على مقربة من القلب، يفعلون ذلك "كبيرهم وصغيرهم" ليس احتفاءاً بعيد الحب بل احياءاً لذكرى ضحاياهم في الحرب العالمية الثانية في يوم مميز يتفوق في طقوسه على احتفالاتهم بعيد الحب "الفالنتين".
الحب أعمق من أن يحاصره يوم عبر طقوس لا تلامس جوهره، قد يجيد الغرب التعبير عنه ولا يجد حرجاً في ذلك، في الوقت الذي نسجل نحن فشلاً ذريعاً في تعميق هذه القيمة في علاقاتنا المجتمعية، ودوماً ما نحن إلى الماضي ونصفه بالزمن الجميل دون أن نكلف أنفسنا عناء تكريس قيمه في واقعنا الحالي، لطالما شدني في مدينة خان يونس سوق الحب "بفتح الحاء وليس بضمها كما الحال مع الحب الذي استعرناه من السيد فالنتين"، والسوق اشتق اسمه من بيع البقوليات الذي اشتهر بها، ومحلاته في قدمها تجاري قدم المدينة ذاتها، وانتشرت فيه محلات العطارة، أكثرها شهرة كانت لرجلين يملكان محلين متجاورين لبيع العطارة، أمضيا فيهما عمرهما الطويل حتى تقوس جسداهما.
كان لأحدهما نصيب من الرزق يفوق بكثير ما يحصل عليه جاره، وكانت بينهما لغة اعتدت أن أقف لأستمع إلى مفرداتها، كنت أجد فيهما حوار جرير مع الفرزدق، كان صاحب الرزق الوافر يطلب من زبائنه أن يصطفوا في طابور، ويكرر ذلك مراراً وتكراراً كي يستفز جاره الذي يجلس دون عمل يقوم به، كان ذلك كفيلاً دوماً بفتح حوار خاص بينهما، لا يعطله البحث في الأواني القديمة التي لا تحمل شيئاً يدل على محتواها، ورغم ذلك يهتدي صاحبها إليها دون عناء يذكر، اعتقدت أن مساحة البغض والكراهية بينهما لا حدود لها، إلى أن اكتشفت أن الحب الذي كان يجمعهما تعجز الكلمات عن حمل معانيه.
يوم رحل أحدهما عن الحياة الدنيا أغلق الآخر محله حداداً على جاره، وحتى بعد أن عاد لفتحه من جديد بعد ايام عدة لم يسكن الفرح والنشاط جنباته، ظل الرجل حزيناً على جاره الذي رحل عنه وأخذ معه الكثير من حياته اليومية، وانعكس ذلك في تدهور مضطرد لوضعه الصحي حتى لحق بجاره الذي سبقه في الرحيل، الشيء المؤكد أن كليهما لم يمسك يوماً ما بوردة حمراء في يده الخشنة، لكنها امتلكا حباً يظلل الزمان.
بقلم/ أسامة الفرا