القارئ لتوراة أو العهد القديم لا بد له من المرور على قصة شمشون فهي ليست قصة خيالية أو شعبية وليست اسطورة في كتب الاغريق بل هي جزء من الشريعة اليهودية الاصيلة فهو من القضاة في التوراة التي بين أيديهم. القصة التوراتية تركت أثرا ليومنا هذا حتى على شكل اليهودي نفسه نراها عند جمهور المتدينين منهم سواءا في حواري منهاتن أو لندن أو في حي مئه شعاريم في القدس. إنها السوالف المتدلية من على رؤوسهم التي هي من الرموز الدينية تماما كما شعور السيخ الطويلة أو لحى المسلمين أو الرأس الاصلع للبوذي فهي تميزهم اولا وثانيا تعبير عن رؤية دينية أو تجسيد لنص ديني.
من هو شمشون وما علاقته بغزة
قبل ثلاثة ألاف عام عاش رجل يهودي في قرية قريبة من مدينة غزة وكان اليهود أنذاك مستضعفون من قبل الفلسطينين سكان غزة الاصليون والذين هم من قبائل العرب وذلك حسب رواية التوراة. في تلك الفترة كان اليهود من القبائل التي تنتشر وكانوا العباد الوحيدين للإله الواحد وأتباع ابراهيم عليه السلام. الغزيون كانوا سكان مدينة كبيرة ووثنيون عندهم معابد ويشتهرون بصيد الاسود والتي كانت رياضة كبار القوم عندهم. اضطهدوا اليهود وبني اسرائيل خاصة وأجبروهم على دفع ضرائب باهظة.
شمشون رفض دفع الضرائب للفلسطينين ولانه يتمتع بقوة خارقة حاربهم لوحده فهزم كتيبة كاملة من جنودهم باستخدام فك حمار مما زاد بازدرائهم وعندما حاصروا أهله وقتلوا أطفالهم طالبه أهله بتسليم نفسه ولبى النداء إلا أنه هرب بعد تحطيم باب غزة وهو باب عظيم لمدينة غزة.
كل المحاولات باءت بالفشل فحتى السلاسل الحديدية التي ربطوا شمشون بها حطمها بيديه وشاهدوه يقتل أسدا دون استخدام سكين أو بل بقوة بدنه. اجتمع أمير غزة مع قادة جيشه ووضعوا جائزة بمئة ألف قطعة فضية لمن يقضي على شمشون الارهابي الذي أفسد أمنهم وسرق حتى ملابس قادتهم بالقوة.
دليلة من غزة تعهدت بهزيمة شمشون
دليلة هو اسمها والذي يرتبط بأسوأ صفات الخديعة والمكر والدهاء النسوي. دلية كانت تحب شمشون لكنه أحب اختها مما أشعل الغيرة في قلبها فهي تمنته زوجا لها إلا أن قلب ذاك الرجل كان في مكان آخر عند اختها التي سرعان ما قتلت بينما كان شمشون في معركة ضد أهلها الفلسطينين. فرغ قلب شمشون الذي عانى في المقابل من اهانة أهله اليهود له لانه أراد الزواج بكافرة من قوم يعادون اليهود.
تعهدت دليلة بتقديم شمشون لهم لكنها اشترطت أن لا يقتل بل يهان طوال عمره بجر طاحونة بالجاموس في المطحنة. ما هي إلا بضعة أسابيع حتى إلتفتت دليلة على شمشون وأغرته بنفسها فرضخ لها بكل جوارحه وقدم لها قربانا لحبهما.
قوة الشعر وجبروت المرأة
السر في قوة شمشون كان شعره الطويل لهذا لم يقدر عليه جنود الارض بقوة الرب. بعد أن عرفت السر قامت دليلة بنفسها بقص شعره فأصبح كالاسد العاري بلا شعر وبلا كرامة وبلا زهو. ربطه الجنود وجروه إلى غزة ولكنهم حرقوا عينيه كي يزيدوا من ذله وعاره الذي رافقه طيلة عقود في المطحنة يجر حجر الرحى.
اكتشفت دليلة عظم خطيئتها لكن متأخرا فعاشت هي أيضا في عارها الأبدي فهي خانت من أحبها فلا تؤتمن ولا تصدق ولكنها كريمة بين قومها وبطلة بنظرهم.
عملية شمشون التدميرية لغزة
دخلت دليلة على شمشون في المطحنة واعتذرت منه على خيانتها التي لا تغتفر فطلب شمشون منها ايصاله للمعبد الذي بُنى على عامودين كي يغفر لها. وفي أحد أيام العيد عند الوثنين جاءوا بشمشون الارهابي الاعمى الذي هدد أمنهم وسخروا منه ووقفت دليلة بينهم وبدأت تجره نحو العامودين لينتصب شمشون بينهما وانتبه أمير غزة أن شعر شمشون قد طال كما كان, لكن شمشون لم يمهل أحدا الوقت فدفع العامود الاول والثاني وكانت تعلم دليلة النتيجة الحتمية لخطتها الاخيرة فوقفت لجانب حبيبها التي خانته كي تذوق اثم مكرها.
استشهاد أم انتحار هو السؤال
سقط المعبد على رؤوس أهالي غزة من نساء ورجال وأطفال. هذا الحدث اعتبرته التوراة بطولة ما بعدها بطولة غفر لشمشون غبائه وثقته بالكافرة لان الفلسطينين بعدها ضعفت قوتهم وما هي إلا سنوات حتى استعاد اليهود قوتهم متأثرين بتضحية شمشون ليظهر شاوول وداود.
جدلية الانتحار والاستشهاد لمن تكن تدرس في المعاهد الدينية اليهودية لان شمشون بطل توراتي لا محالة أما عملية تدمير المعبد على كل من كان فيه اعتبر من ضروب البطولة الخارقة حتى لو كانت على حساب النساء والاطفال والشيوخ. هنا تظهر هذه العقلية أو بالأحرى الاتباع الديني لفكرة التدمير والقتل الجماعي والتضحية بالنفس في أصل اصول اليهودية وهي جزء من ثقافة الجيش الاسرائيلي بشكل خاص كما رأينها في حروب اسرائيل ضد الابرياء في بيروت وغزة وطبعا البداية في دير ياسين.
المفاعل النووي في ديمونا هو التجسيد العملي لقصة شمشون فلو شارف العدو على تدمير دولة اسرائيل فالرد بتدمير كل الشرق الاوسط بمن فيه وهنا استراتيجية عسكرية تتعلق ليس بالدفاع بل بحتمية النصر الابدي. أهالي غزة يرونهم قادة الاحتلال أحفاد الفلسطينيين ببساطة لان هذه الدولة تترجم كل ماحدث قبل ثلاثة الاف عام على الواقع الان. مثل اورشليم هي القدس وشكيم هي نابلس وأشكلون هي عسقلان والعرب هم الوثنيون الذين حاربوهم كما تدعي كتبهم.
من الجدير ذكره قصة ماساد غربي البحر الميت التي لا تختلف كثيرا عن عقلية شمشون التي تعيد النقاش حول الانتحار الجماعي أم القتل والمذبحة الجماعية وقيمتها الاخلاقية الانسانية. قصص كانت مثار جدل داخل الاطر الفكرية الصهيونية ولكن في الاطر الدينية فهي أصلا محسومة لانها جزء من الدين وشمشون بطل بلا خلاف بينهم لانه هكذا رُسم في اطار القصة التوراتية.
جيش شمشون الاسرائيلي
جيش اسرائيل لا يتوقف عن تسمية كتائب وفرق بإسم شمشون بل واسلحة صنعت في مصانعهم تحمل نفس الاسم علما أن شمشون كان من الصّديقين في التوراة ولم يكن قويا بجهده الشخصي أي كان مؤيدا من قبل الرب بالوحي وليس بالرياضة والتدريب. الجيش الاسرائيلي لا يمتلك الوحي وفي نفس الوقت يقوم بأعمال قتل جماعية بلا رحمة وكأنه يعيد كتابة التوراة فبدل شمشون يوجد المركفاة وبدل الوثينين يوجد الفلسطينيون وبدل باب غزة يوجد مخيمات اللاجئين وبدل المعبد الوثني يوجد أبراج غزة السكنية.
اللافت أن القوات الخاصة التي كانت تقتل قادة العمل الوطني في قطاع غزة كانت وحدة شمشون وهي تقابل وحدة الدوفدوفان في الضفة الغربية. وفكرة وحدة شمشون الخاصة في غزة تقتل أعداء الدولة هي تجسيد لقصة شمشون التوراتية ورغم حل الوحدة الخاصة بعد توقيع اتفاقية اوسلو إلا أن عقلية شمشون المدمر القوي الجبار تبقى في دروس الجنود الجدد الذين لربما لم يقرأوا التوراة ولكن على القيادة العسكرية توفير بطل يهودي خارق يملك الحق في القتل والتدمير وبمباركة إلاهية توراتية تسهل على الجندي ضغط الزناد على المدنين العزل. أما دليلة فهي المثال الاكثر فسادا لأي يهودي يفكر بالتعايش مع الاخر فشمشون أحبها حبا أعمى بدل أن يحب يهودية مثله وفكر بالتعايش مع الاخر ولهذا دفع ثمنا باهظا ليس هو فقط بل شعبه الذي عانى بينما كان هو يجر الطاحونة كدواب.
بقلم/ أحمد البديري